سورة المائدة
وقد تقدم وجه في مناسبتها وأقول: هذه السورة أيضاً شارحة لبقية مجملات سورة البقرة، فإِن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة وكذا ما أخرجه الكفار تبعاً لآبائهم في البقرة موجز وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله: (ما جعل اللَهُ مِن بحيرة ولا سائبة) وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأَرض فكأَنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً وذلك أبسط من قوله في البقرة: (ولَكُم في القِصاص حياة) وفي البقرة: (وإِذ قلنا ادخلوا هذه القرية) وذكر في قصتها هنا: (فسوفَ يأَتي اللَهُ بقومٍ يحبهم ويحبونه) وفي البقرة قصة الأيمان موجزة، وزاد هنا بسطاً بذكر الكفارة وفي البقرة قال في الخمر والميسر: (فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإِثمهما أَكبر من نفعهما) وزاد في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله: (قل هل أَنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه) وقوله: (قد ضلوا من قبل وأَضلوا عن سواء السبيل) وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جداً وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحاً وضمنا، فالصريح: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله: (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله: (إِلا الذينَ يصلون إِلى قوم بينَكُم وبينَهُم ميثاق) وقوله: (وإِن كانَ مِن قومٍ بينكُم وبينهم ميثاق فدية) والضمنى: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله: (إِن اللَهُ يأَمُركُم أَن تؤدوا الأمانات إِلى أَهلها) فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل في المائدة: (يا أَيها الذين آمنوا أَوفوا بالعقود) التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة، وهو: أن تلك أولها: (يا أَيها الناس) وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المكي، وتقديم العام وشبه المكي أنسب ثم إن هاتين السورتين النساء والمائدة في التقديم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول، من الوحدانية، والكتاب، والنبوة وهاتان في تقرير الفروع الحكمية وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء فكأنما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى ولما وقع في سورة النساء: (إِنا أَنزلنا إِليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس) الآيات فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعاً، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله) فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي
سورة الانعام
قال بعضهم: مناسبة هذه السورة لآخر المائدة: أنها افتتحت بالحمد، وتلك ختمت بفصل القضاء، وهما متلازمتان كما قال: (وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) وقد ظهر لي بفضل الله مع ما قدمت الإشارة إليه في آية (زين للناس) أنه لما ذكر في آخر المائدة (للَهِ مُلكُ السموات والأَرض وما فيهن) على سبيل الإجمال، افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ بذكر: أنه خلق السموات والأرض، وضم إليه أنه جعل الظلمات والنور، وهو بعض ما تضمنه قوله: (وما فيهن) في آخر المائدة وضمن قوله: (الحمد لله) أول الأنعام أن له ملك جميع المحامد، وهو من بسط: (للَهِ مُلكُ السمواتِ والأَرض وما فيهن) في آخر المائدة: