فعلى هذا القول الثَّاني نسبة الاستهزاء إليه -تعالى- على ظاهرها.
وأما على القول الأول فلا بد من تأويل وهو من وجوه :
الأول : قيل : المعنى : يجازيهم على استهزائهم فسمى العقوبة باسم الذَّنب ليزدوج الكَلاَم، ومنه :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، ﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ].
وقال :﴿ إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]، ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله ﴾ [ آل : عمران : ٥٤ ].
وقال ﷺ :« اللَّهُمَّ إنّ فلاناً هَجَاني، وهو بعلم أني لَسْتُ بِشَاعِرٍ، اللّهم فاهجُهُ، اللهم فالْعَنْهُ عَدَدَ ما هَجَانِي » ؛ وقال عليه الصلاة والسَّلام :« تَكَلَّفُوا من الأَعْمَالِ ما تُطِيقونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا » ؛ وقال عمرو بن كلثوم :[ الوافر ]
٢١٤- أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنا | فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا |
وثالثها : أنّ من آثار الاستهزاء حُصُول الهَوَان والحَقارة، فذكر الاستهزاء، والمراد حُصُول الهَوَان لهم فعبّر بالسَّبب عن المُسَبِّب.
ورابعها : أنَّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أَحْكَامِهِ في الدُّنْيا ما لهم عند اللهِ خلافها في الآخرة، كما أنهم أَظْهَرُوا [ للنَّبي و ] المؤمنين أمراً مع أنَّ الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - لما أظهر لهم أحكام الدُّنيا، فقد أظهر الأدلّة الواضحة بما يعاملون به في الدَّار الآخرة، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا.
وخامسها : أن الله - تعالى - يُعَاملهم مُعَاملة المُسْتَهْزِئِ في الدُّنيا والآخرة، أما في الدنيا، فلأنه أطلع الرسول على أَسْرَارِهِمْ لِمُبَالغتهم في لإخْفَائِها، وأمّا في الآخرة فقال ابنُ عَبَّاس : هو أن يفتح لهم باباً من الجنة، فإذا رأوه المُنافقون خرجوا من الجَحِيمِ متوجّهين إلى الجنة، فإذا وصلوا إلى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذلك قوله تعالى :﴿ فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ ﴾ [ المطففين : ٣٤ ] وقيل : هو أن يُضْرَبَ للمؤمنين نورٌ يَمْشون به على صراط، فإذا وصل المنافقون إليه حِيَلَ بينهم وبينه، كما قالَ تَعَالَى :﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾ [ الحديد : ١٣ ] الآية.
فإن قيل : هلا قيل : إن الله يستهزئ بهم ليكون مطابقاً لقوله :﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ البقرة : ١٤ ] ؟
ولجواب : أنَّ « يستهزئ : يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتاً بعد وقت، وقتاً بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ﴿ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ﴾ [ التوبة : ١٢٦ ].
و » الطُّغيان « : الضلال مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْياناً وطُغياناً بكسر الطَّاء وضمها. وبكسر الطَّاء قرأ زيد بن علي، ولام » طغى « قيل : ياء. واو، يقال : طَغَيْتُ وطَغَوْتُ، وأصل المادّة مُجاوزة الحَدّ، ومنه : طغى الماء.
و » العَمَةُ « : التردُّد والتحيُّر، وهو قريب من العَمَى، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً، لأن العَمَى يطلق على ذهاب ضوء العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعَمَةُ لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال : عَمِهَ عَمَهاً وَعَمَهَاناً فهو عَمِهٌ فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ.