فأما قوله تعالى :﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ [ النساء : ٧٤ ]، فإنَّ ظاهره أن الآخرة هي المأخوذة لا المتروكة.
فالجواب ما قاله الزَّمَخْشَرِيَ :« أن المراد ب » المشترين « المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النِّفَاق، ويخلصوا الإيمان بالله -تعالى- ورسوله، ويجاهدوا في الله حَقّ الجهاد، فحينئذ دخلت » الباء « على المتروك.
والشِّراء -هاهنا- مَجَاز عن الاستبدال بمعنى أنهم لما تركوا الهدى، وآثروا الضلالة، جُعِلُوا بمنزلة لها بالهُدَى، ثم رشح هذا المجاز بقوله تعالى :﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ ﴾ فأسند الرِّبْحِ إلى التِّجارة، والمعنى : فما ربحوا في تِجارتِهم؛ ونظير خذا التَّرْشيح قول الآخر :[ الطويل ].

٢١٦- بَكَى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ
لما أسند البكاء إلى الخَزّ من أجل هذا الرجل - وهو رَوْح - وإنكاره لجلده مجازاً رَشّحه بقوله :» وَعَجّت المَطَارف من جُذام « أي : استغاثت الثياب من هذه القبيلة. وقول الآخر :[ الطويل ].
٢١٧- وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَ ابْنُ دَايةٍ وَعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي
لما جعل »
النَّسْرَ « عبارة عن الشَّيب، و » ابن داية « وهو الغُرَاب عبارة عن الشباب، مجازاً رَشّحه بذكر التعشُّش في الوَكْرِ، وقول الآخر :[ الوافر ].
٢١٨- فَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإنْ أَدَلَّتْ بِعَالِمَةٍ بأَخلاقِ الكِرامِ
إِذا الشَّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاهَا تَنَفَّقْنَاهُ بِالحبْلِ التُّؤَامِ
لما قال :»
قَصّع في ثقاها « أي : دخل من القاصعاء، وهي : جُحر من جِحَرَة اليَرْبُوعِ هنا لما ذكر سبحانه الشِّر، أتبعه بما يُشاكله، وهو الربح تمثيلاً لخسارتهم.
والربح : الزيادة على رأس المال.
وقوله :﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ هذه الجملة معطوفةٌ على قوله :﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ ﴾.
والمهتدي : اسم فاعل من اهتدى، و »
افتعل « عنا للمُطَاوعة، ولا يكون » افتعل « للمطاوعة إلا من فعل نتعدٍّ.
وزعم بعضهم أنه يجيء من اللاَّزم، واستدل على ذلك بقول الشاعر :[ الزجر ].
٢١٩- حَتَّى إذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ في السَّحَرْ كَشُعْلَةِ القَابِسِ تَرْمِي بالشَّرَرْ
قال : ف »
اشْتال « افتعل لمُطاوعة » شال «، وهو لازم، وهذا وهم؛ لأن » افتعل « هنا ليس للمطاوعة، بل بمعنى » فَعَلَ « المجرد.
ومعنى الآية أنهم ما كانوا مهتدين من الضلالة، وقيل : مُصِيبين في تِجارتِهم؛ لأنّ المقصود من التِّجَارة سلامةُ رأس المال، والربح، وهؤلاء أضاعوا الأمرين؛ لأن رأس مالهم هو العَقْل الخالي عن المانع، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة مانعةً من الاشتغال بطلب العقائد الحقة.
فهؤلاء مع أنهم لم يربحوا فقد أفسدوا رأس المال، وهو العقل الهادي إلى العقائد الحقة.
وقال قتادة :»
انتقلوا من الهُدَى إلى الضَّلالة، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الجَمَاعة إلى الفُرْقة، ومن الأمن غلى الخوف، ومن السُّنة إلى البِدْعَةِ «.


الصفحة التالية
Icon