فإذا قلت :« ذهبت بزيد » فلا بُدَّ أن تكون قد صاحبته في الذِّهَاب فذهبت معه.
وإذا قلت : أذهبته جاز أن يكون قد صحبته وألاَّ يكون.
وقد رد الجمهور على المُبَرّد بهذه الآية؛ لأن مصاحبته - تعالى - لهم في الذهاب مستحيلة.
ولكن قد أجاب [ أبو الحسن ] ابن عُصْفور عن هذا بأنه يجوز أن يكون - تعالى - قد أسند إلى نفسه ذهاباً يليق به، كما أسند إلى نفسه - تعالى - المجيء والإتيان على معنى يليق به، وإنما يُرَد عليه بقول الشاعر :[ الطويل ].

٢٣٣- دِيارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنَى تَحُلُّ بِنَا لَوْلاَ نَجَاءُ الرَكائِبِ
أي : تجعلنا جلالاً بعد أن كُنَّا مُحْرِمِين بالحج، ولم تكن هي مُحْرِمَة حتى تصاحبهم في الحِلِّ؛ وكذا قول امرئ القيس :[ الطويل ]
٢٣٤- كُمِيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ كَمَا زَلَّتِ الصَّفْواءُ بِالمُتَنَزِّلِ
« الصفواء » الصخرة، وهي لم تصاحب الذي تزله.
والضمير في « بنورهم » عائد على مَعْنَى الذي كما تقدم.
وقال بعضهم : هو عائد على مُضاف محذوف وتقديره : كمثل أصحاب الذي استوقد، واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير، قال : حتى يتطابق المشبه والمشبه به؛ لأنّ المشبه جمع، فلو لم يقدر هذا المُضاف، وهو « أصحاب » لزم أن يشبه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد. ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على مَنْعِ تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما، وأيضاً فإنَّ المشبّه والمشبه به إنما هو القصّتان، فلم يقع التشبيه إلاَّ بين قصَّتين إحداهما مُضافة إلى جمع، والأخرى إلى مُفْرد.
قوله :﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ ههذه جملة معطوفة.
فإن قيل : لم قيل : ذهب بنورهم، ولم يقل : أذهب الله نورهم؟
فالجواب : أن معنى أذهبه : أزاله، وجعله ذاهباَ، ومعنى ذهب به : إذا أخذه، ومضى به معه، ومنه : ذهب السُّلطان بماله : أخذه، قال تعالى :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ﴾ [ يوسف : ١٥ ] فالمعنى : أخذ الله نوره، وأمسكه، فهو أبلغ من الإذهاب، وقرأ اليماني :« أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ ».
فإن قيل : هلاّ قيل : ذهب الله بضوئهم [ لقوله :﴿ فَلَمَّآ أَضَاءَتْ ﴾ ؟
الجواب : ذكر النور أبلغ؛ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة. ]
فلو قيل : ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب [ الكمال، وبقاء ] ما يسمى نوراً والغرض إزالة النُّور عنهم بالكلية، أَلا ترى كيف ذكر عقبيه :﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ والظلمة عبارة عن عدم النور.
وقوله :[ ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ ] هذه جملة معطوفة على قوله :« ذهب الله »، وأصل الترك : التخلية، ويراد به التّصيير، فيتعدّى لاثنين على الصَّحيح؛ كقول الشَّاعر :[ البسيط ]
٢٣٥- أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتَكَ ذَا مالٍ وَذَا نَضَبِ
فإن قلنا : هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير، والمفعول الثاني :« في ظلمات » و « لا يبصرون » حال، وهي حال مؤكدة؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ.


الصفحة التالية
Icon