٢٥٧- فَأُبْتُ إلّى فَهْمٍ وَمَا كِدْتُ آيباً وَكَمْ مِثْلِهَا فَارَقْتُهَا وَهِيَ تَصْفِرُ
والأكثر في خبرها تجرّده من « أن »، عكس « عسى »، وقد شذّ اقترانه بها؛ قال رُؤْبَة :[ الرجز ]
٢٥٨- قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ البِلَى أَنْ يَمْحَصَا لأنها لمقاربة الفعل، و « أَنْ » تخلص للاستقبال، فتنافيا.
واعلم أن خبرها -إذا كانت هي مثبتة- منفيٌّ في المعنَى، لأنها للمقاربة.
فإذا قلت :« كَادَ زَيْدٌ يَفْعَلُ » كان معناه : قارب الفعل إلاّ أنه لم يفعل، فإذا نُفِيَتِ، انتفى خبرها بطريق الأولَى؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أوبى؛ ولهذا كان قوله تعالى :﴿ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ [ النور : ٤٠ ] أبلغ من أن لو قيل : لَمْ يَرَهَا، لأنه لم يقارب الرُّؤْيَة، فكيف له بها؟
وزعم جماعة منهم ابن جِنِّي، وأبو البَقَاءِ، وابن عطية أن نفيها إثبات، وإثباتها نفي؛ حتى ألغز بعضُهُمْ فيها؛ فقال :[ الطويل ]
٢٥٩- أَنحويَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفظةٌ جَرَتْ في لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إِذَا نُفِيتْ -والله أَعْلَمُ- أُثْبِتَتْ وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وحكوا عن ذي الرَّمَّة أنه لما أنشد قولَهُ :[ الطويل ]
٢٦٠- إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
عيب عليه؛ لأنه قال :« لم يكد يَبْرَحُ »، فيكون قد بَرِحَ، فغيَّره إلى قوله :« لَمْ يَزَلْ » أو ما هو بمعناه.
والذي غرَّ هؤلاء قوله تعالى :﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ البقرة : ٧١ ] قالوا :« فهي هنا منفية » وخبرها مثبت في المعنى؛ لأن الذبح وقع لقوله :« فَذَبَحُوهَا »، والجواب عن هذه الآية من وجهين :
أحدهما : أنه يحمل على اختلاف وقتين، أي : ذبحوها في وقت، وما كادوا يفعلون في وقت آخر.
والثاني : أنه عبّر بنفي مُقَاربة الفعل عن شدَّة تعنُّتهم، وعسرهم في الفعل.
وأما ما حكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة، فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرمَّة في رجوعِهِ عن قوله الأوَّل، وقالوا :« هو أبلغُ وأحْسَنُ مما [ غيَّره إليه ].
واعلم أن خبر »
كاد « وأخواتها -غير » عَسَى « - لا يكون فاعله إلاّ ضميراً عائداً على اسمها؛ لأنها للمقاربة أو للشُّرُوع، بخلاف » عسى «، فإنها للترجِّي؛ تقول :» عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومُ أَبُوهُ «، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأما قوله :[ الطويل ]
٢٦١- وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِميَّةَ نَاقَتِي فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ تُكَلِّمُني أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ
فأتى بالفاعل ظاهراً، فقد حمله بعضهم على الشُّذُوذ، ينبغي أن يقال : إنما جاز ذلك؛ لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرَّبْعِ، فهي هو، فكأنه قيل : حتَّى كادَ يكلُّمُني؛ ولكنه عبّر [ عنه ] بمجموع أجزائه.
وأما قول الآخَرِ :[ البسيط ]


الصفحة التالية
Icon