اعلم أنه -تعالى- لما بين أحكام الفِرَقِ الثلاث -أعني المؤمنين والكفار والمنافقين- أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب « الالتفات ».
« يا » حرف نداء وهي أم الباب.
وزعم بعضهم أنها اسم فعل، وقد تحذف نحو :﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ﴾ [ يوسف : ٢٩ ].
وينادي بها المندوب والمستغاث. قال أبو حيان :« وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلاَّ بها ».
وزعم بعضهم أن قراءة :« أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ » [ الزمر : ٩ ] بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء، وهو غريب، وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية، قال تعالى :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ ﴾ [ النمل : ٢٥ ] بتخفيف أَلاَ؛ وقال الشاعر :[ الطويل ]
٢٧٢- أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ | .............................. |
٢٧٣- يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلُّهِمُ | وَالصَّالِحِينَ عَلَى سمْعَانَ مِنْ جَارِ |
و « ها » زائدة للتنبيه لازمة لها، والمشهور فتح هَائِهَا، ويجوز ضمُّها إتباعاً للياء، وقد قرأ ابن عامر بذلك في بعض المواضع نحو « أَيُّهُ المُؤْمِنُونَ » [ النور : ٣١ ] والمرسوم يساعده.
ولا توصف « أي » هذه إلا بما فيه الألف واللام، أو بموصول هما فيه، أو باسم إشارة نحو :﴿ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر ﴾ [ الحجر : ٦ ] وقال الشاعر :[ الطويل ]
٢٧٤- ألاَ أَيُّهَذَا النَّابِحُ السِّيدَ إِنَّنِي | عَلَى نَأْيهَا مُسْتَبْسِلٌ مِنْ وَرَائِهَا |
أحدهما : أن قوله :« أنادي زيداً » خبر يحتمل الصدق والكذب، وقوله : يا زيد لا يحتملهما.
وثانيها : أن قولنا :« يا زيد » يقتضي أن زيداً منادى في الحال، و « أنادي زيداً » لا يقتضي ذلك.
وثالثها : أن قولنا :« يا زيد » يقتضي صيرورة زيد خاطباً هذا الخطاب، و « أنادي زيداً » لا يقتضي ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يخبر إنساناً آخر بأن أنادي زيداً.
ورابعها : أن قولنا : أنادي زيداً إخبار عن النداء، والإخبار عن النداء غير النداء.
واعلم أن « يا » حرف وضع في أصله لنداء البعيد، وإن كان لنداء القريب، [ لكن بسبب أمر مهم جدًّا، وأما نداء القريب فله :« أي » والهمزة ] ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب، تنزيلاً له منزلة البعيد.
فإن قيل : فلم يقول الداعي :« يا رب »، « يا الله » وهو أقرب إليه من حبل الوريد؟
قلنا : هو استبعاد لنفسه من مَظَانّ الزُّلْفَى، إقراراً على نفسه بالتقصير.