فإن قيل : إذا كانت العبادة تقوى فقوله :﴿ اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ما وجهه؟
والجواب من وجهين :
الأول : لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى، بل العبادة فعل يحصل به التقوى؛ لأن الاتِّقاء هو الاحتراز عن المَضَارّ، والعبادة فعل المأمور به، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز، بل موجب الاحتراز، فإنه -تعالى- قال :﴿ اعبدوا رَبَّكُمُ ﴾ لتحترزوا به عن عقابه.
وإذا قيل في نفس الفعل :« إنه اتقاء » فذلك غير ما يحصل به الاتقاء، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه.
الثاني : أنه -تعالى- إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا، على ما قال :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ] فكأنه -تعالى- أمر بعبادة الرَّبِّ الذي خلقهم لهذا الغرض، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة.
فَصْلٌ في القراءات في الآية
قرأ أبو عمرو : خَلَقَكُمْ بالإدغام، وقرأ ابن السَّميفع :« وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُم ».
قوله :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ ﴾ يحتمل النصب والرَّفع، فالنصب من خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون نصبه على القطع.
الثاني : أنه نعت لربكم.
الثالث : أنه بدل منه.
الرابع : أنه مفعول ل « تتقون »، وبه قال أبو البقاء.
الخامس : أنه نعت النعت، أي : الموصول الأول، لكن المختار أن النعت لا ينعت، بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتاً للأول، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتاً للنعت، نحو قولهم :« يا أيها الفارس ذو الجمة » فذو الجمة نعت للفارس لا ل « أي » ؛ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره.
والرَّفع من وجهين :
أحدهما وهو الأصح : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو الذي جعل.
والثاني : أنه مبتدأ، وخبره قوله بعد ذلك : فلا تجعلوا لله، وهذا فيه نظر من وجهين :
أحدها : أنّ صلته ماضية فلم يشبه الشرط، فلا يزاد في خبره « الفاء ».
الثاني : عدم الرابط، إلا أن يقال بمذهب الأخفش، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظَّاهر إذا كان بمعناه نحو :« زيد قام أبو عبد الله » إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضَّمير، كأنه قال : الذَّي جعل لكم، فلا تجعلوا له أنداداً.
و « الذي » كلمة موضوعة للإشارة إلى المفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك : ذهب الرجل الذي أبوه منطلق، فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الَّذي، وهو يحقّق قولهم : إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل.