والعبادَةُ : غايةُ التذللِ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غاية الإفْضَالِ، وهو الباري -تعالى- وهو أبلغ من العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ، ويُقالُ : طريقٌ مُعَبَّدٌ، أَيْ : مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه. وقال طَرَفة في ذلك :[ الطويل ]
٦٦- تُبَاري عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ | وَظِيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ |
وقيل : العبادةُ التَّجَرُّدُ، ويُقالُ : عَبَدْتُ اللهَ -بالتخفيف فقط- وعَبَّدْتُ الرجل- بالتشديدِ فقط، أَيْ : ذللتُه، واتخذتُه عبداً.
وفي قوله تعالى :« إيَّاكَ نَعْبُد » التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ، إِذْ لو جرى الكلامُ على اصله، لَقِل : الحمد لله، ثم قيل : إيَّاهُ نَعبدُ، والالتفاتُ : نوعٌ مِن البلاغَةِ.
قال ابنُ الخَطيب -C- : والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه :
أحدُها : أن المصلِّي كان أَجْنَبِيَّاً عند الشروعِ في الصَّلاةِ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله -تعالى- بألفاظ الغيبة، إلى قوله :« يَوْمِ الدِّينِ »، ثم إنه تعالى كأنه قال له : حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً، ربَّا، رحماناً، رحيماً، مالكاً ليوم الدين، فَنَعْمَ العبْدُ أنت، فرفعنا الحجابَ، وأبدلنا البُعْدَ بالقُرْبِ، فتكلّم بالمخاطبة وقل : إياك نعبد.
الثاني : أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ، [ والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِلَ ] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ.
ومن الالتفاتِ -إلاّ كونه عَكْسَ هذا- قولُه تبارك وتعالى :﴿ حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾ [ يونس : ٢٢ ] ولم يَقُلْ :« بكم » ؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله :[ المتقارب ].
٦٧- تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ | وَنَامَ الخَلِيليُّ وَلَمْ تَرْقُدِ |
وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ | كَلَيْلَةٍ دِي العَائِرِ الأرْمَدِ |
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي | وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ |
أحدُهما : خُروجٌ مِنَ الخِطابِ به في قولِهِ :« لَيْلُك »، إلى الغَيْبَةِ في قوله :« وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ ».
والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلِّم، في قولِه :« مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ ».
والجوابُ : أَنَّ قولَه أَوّلاً :« تَطَاوَلَ لَيْلُك » فيه التفاتٌ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ :« تطاول لَيْلِي » ؛ لأنه هو المقصودُ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبة، ثمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل.
وقُرِىءَ شاذّاً :« إِيَّاكَ يُعْبَدُ » على بنائِهِ للمفعول الغائب؛ ووجهُها على إشْكَالِها : أن فيها استعارةً والتفاتاً :
أما الاستعارةُ :[ فإنه استُعِير ] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْع، والأصل : أنت تُعْبَدُ، وهو شائع؛ كقولِهم :« عَسَاكَ، وعَسَاهُ، وعَسَانِي » في أحدِ الأقوالِ؛ وقول الآخر :[ الرجز ]
٦٨- يا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا | وَطَالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيْكَا |
وأما الالتفاتُ : فكان من حقِّ هذا القارئ أَنْ يَقْرَأَ :« إِيَّاكَ تُعْبَدُ » بالخطابِ، ولكنه التفت من الخطاب في « إِيَّاكَ » إلى الغَيْبَةِ في « يُعْبَدُ » إلاّ أن هاذ الالتفاتَ غَريبٌ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه :[ الطويل ]