فإن قيل : ما الفائدة في أن الله قال للملائكة :« إنِّي جَاعِلٌ في الارضِ خليفةً » مع أنه منزّه عن الحاجة إلى المَشُورة؟.
فالجواب من وجهين :
الأوّل : أنه -تعالى- علم أنهم إذا اطَّلعُوا على ذلك السّر أوردوا عليه ذلك السُّؤال، فكانت المَصْلَحَة تقتضي إحاطتهم بذلك الجَوَاب، فعرّفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السُّؤال، ويسمعوا ذلك الجواب.
والثاني : أنه -تعالى- علم عباده المَشُورة.
قوله :« إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً » هذه الجملة معمولُ القول، فهي في محل نصب به، وكسرت « إنَّ » هنا، لوقوعها بعد القول المجرّد من معنى الظَّنِّ محكية به، فإن كان بمعنى الظَّن جرى فيها وجهان : الفَتْح والكَسْر؛ وأنشدوا :[ الطويل ]
٣٥٦- إِذَا قُلْتَ إِنِّي آيبٌ أَهْلَ بَلْدَةٍ | نَزَعْتُ بِهَا عَنْهُ الْوَلِيَّةَ بِالهَجْرِ |
و « إن » على ثلاثة أقسام :
قسم يجب فيه كسرها، وقسم يجب فيه فتحها، وقسم يجوز فيه الوجهان.
والضابط الكُلّي في ذلك : أن كلَّ موضع سَدَّ مسدَّها المصدرُ، وجب فيها فتحها؛ نحو :« بلغني انك قائمٌ »، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّهَا، وجب فيه كَسْرُها؛ كوقوعها بعد القول ومبتدأةً وصلةً وحالاً، وكلّ موضع جاز أن يسدّ مسدّها، جاز الوجهان؛ كوقوعها بعد فاء الجزاء، و « إذا » الفجائية.
و « جاعل » فيه قولان :
أحدهما : أنه بمعنى « خالق » فيكون « خليفة » مفعولاً به و « فِي الأَرضِ » فيه حينئذ قولان :
أحدهما : وهو الواضح -أنه متعلّق ب « جاعل » والثاني : أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه حال من النكرة بعده.
القول الثانيك أنه بمعنى « مُصَيِّر » ذكره الزَّمَخْشَرِي، فيكون « خليفة » هو المفعول الأول، و « في الأرض » هو الثَّاني قدم عليه، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر.
والأرض قيل : إنها « مكة »، روى ابن سابط عن النبي - ﷺ - قال :« دُحِيَتِ الأَرْضُ من مَكَّةَ » ولذلك سميت « أم القرى »، قال : وقبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بين « زمزم » والمَقَام.
والظاهر أنّ الأرض في الآية جميع الأرض من المشرق والمغرب.
و « خليفة » يجوز أن يكون بمعنى « فاعل » أي : يخلفكم أو يخلف من كان قبله من الجنّ، وهذا أصح، لدخول تاء التأنيث عليه.
وقيل : بمعنى « مفعول » أي : يخلف كل جيل من تقدمه، وليس دخول « التَّاء » حينئذ قياساً، إلاَّ أن يقال : إن « خليفة » جرى مجرى الجَوَامِدِ ك « النَّطيحة » و « الذَّبيحة ». وإنما استغنى بذكره كما يستغنى بذكر أبي القَبِيلَةِ نحو :« مُضَر » و « رَبِيعَة » وقيل : المعنى على الجنس.