وقال آخرون : بل هذا نهي تحريم، واحتجوا عليه بأمور :
أحدها : أن قوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ﴾ كقوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ] وقوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم ﴾ [ الإسراء : ٣٤ ] فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول.
وثانيهما : قوله :﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين ﴾ أي : إن أكلتما منهما ظلمتما أنفسكما ألا ترى لما أكلا ﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ].
وثالثهما : لو كان للتنزيه لما استحقّ آدم بفعله الإخراج من الجنة، ولما وجبت التوبة عليه.
قال ابن الخطيب : الجواب عن الأول : أن النهي وإن كان في الأَصْلِ للتنزيه، لكنه قد يحمل على التحريم بدليل منفصل.
وعن الثاني : أن قوله تعالى :﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين ﴾ أي : فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه؛ لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنّة التي لا تظمآن فيها، ولا تَضْحَيَان ولا تَجُوعان ولا تَقْرُبَان إلى موضع ليس فيه شيء من هذا.
وعن الثالث : أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنّة كان لهذا السبب.

فصل في فحوى الآية


قال قوم قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ﴾ يفيد بِفَحْوَاهُ النهي عن الأكل؛ وفيه نظر لأن النهي عن القُربان لا يستلزم النهي عن الأَكْلِ؛ إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع انه لو حمل إليه لجاز له أكله، بل الظاهر [ إنما ] يتناول النهي عن القرب.
وأما النهي عن الكل، فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ﴾ [ الأعراف : ٢٢ ] ولأنه حدث الكلام بالأكل فقال :﴿ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ فصار ذلك كالدّلاَلَةِ على أنه تعالى نَهَاهُمَا عن أكل ثمرة الشَّجرة، لكن النهي بهذا القول يعم الكل، وسائر الانتفاعات، ولو كان نصّ على الأكل ما كان يعمّ ذلك، ففيه مزيد فائدة.
قوله :﴿ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين ﴾ فتكونا : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مجزوماً عطفاً على « تَقْرَبا » ؛ كقوله :[ الطويل ]
٤٠٠- فَقُلْتُ لَهُ :
صَوِّبْ وَلاَ تَجْهَدَنَّهُ فِيُدْرِكُ مِنْ أَعْلَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ
والثَّاني : أنه منصوب على جواب النَّهْي لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ ﴾ [ طه : ٨١ ] والنصب بإضمار « أن » عند البَصْريين، وبالفَاءِ نفسها عند الجرمي، وبالخلاف عند الكوفيين. وهكذا كل ما يأتي مثل هذا.
و « الظَّالِمِينَ » خبر « كان ».
و « الظلم » : وضْع الشَّيْ في غَيْرَ موضعه، ومنه قيل للأرض الَّتي لم تستحقَّ الحَفْر، فتحفر : مَظْلُومة، قال النابغة :[ البسيط ]
٤٠١- إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْياً مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بَالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
وقيل : سميت مظلومةً؛ لأنَّ المَطَر لم يأتها، قال عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ :[ الكامل ]
٤٠٢- ظَلَمَ البِطَاحَ بِهَا انْهِلاَلُ حَرِيصَةٍ فَصَفَا النِّطافُ بِهَا بُعَيْدَ المُقْلِعِ
وقالوا :« مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ » ؛ قال :[ الرجز ]
٤٠٣- بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيُّ في الكَرَمْ وَمَنْ يُشَابِهُ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ
والمراد من الآية هو أنكما إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما؛ لأن الأكل من الشجرة لا يقتضي ظُلْمَ الغير، وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه، وبأن يظلم غيره، فظلم النفس اعم وأعظم. والظلم على وجوه :
الأول : ظلم الظَّالم لنفسه بالمعصية كهذه الآية أي : فتكونا من العاصين.
الثاني : الظَّالمون المشركون، قال تعالى :﴿ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين ﴾ [ هود : ١٨ ] يعني : المشركين.
الثالث : الظلم : الضرر، قال تعالى :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [ النحل : ١١٨ ]، أي : ما ضررناهم، ولكن كانوا أنفسهم يضرون.
الرابع : الظلم : الجحود، قال تعالى :﴿ وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥١ ] ومثله :« فَظَلَمُوا بِهَا » أي : فجحدوا بها.


الصفحة التالية
Icon