فإن قيل : كيف كانت الوَسْوَسَةُ؟
فالجواب : هي التي حكى الله عنها في قوله :﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين ﴾ [ الأعراف : ٢٠ ] فلم يقبلا ذلك منه، فلما أيس عدل إلى اليمين على ما قال تعالى :﴿ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين ﴾ [ الأعراف : ٢١ ] فلم يصدقاه.
والظاهر أنه بعد ذلك عَدَلَ إلى شيء آخر، وهو أنه شغلهما باستيفاء اللاَّت المُبَاحَة حتى صارا مستغرقين فيها، فَحَصَلَ بسبب استغراقهما فيها نِسْيَان النهي، فعند ذلك حصل ما حصل، والله اعلم.

فصل في بيان كيف وسوس إبليس لآدم


اختلفوا في أنه كيف تمكّن إبليس من وَسْوَسَةِ آدم ﷺ مع أن إبليس كان خارج الجنّة، وآدم عليه الصَّلاة والسَّلام داخل الجنّة؟ وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : ما روي عن وهب بن منبّه والسدي عن ابن عباس وغيره : أن إبليس أراد دخول الجنة، فمنعته الخزنة، فأتى الحية بعد ما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد من الحيوانات، فابتلعته الحية وأدخلته الجَنَّة خفية من الخَزَنَةِ، فلما دخلت الحَيّة الجنة خرج إبليس من فيها واشتغل بالوَسْوَسَةِ، فلا جرم لعنت الحَيّةِ، وسقطت قوائمها، وصارت تمشي على بطنها، وجعل رزقها في التراب، وصارت عدواً بني آدم، وأمرنا بقتلها في الحِلّ والحَرَمِ.
قال ابن الخطيب : وهذا وأمثاله يجب ألا يلتفت إليه؛ لأن إبليس لو قدر على الدخول في فَمِ الحيّة فلم يقدر على أن يجعل نَفسه حَيّة ثم يدخل الجَنَة؟ ولأن الحية لو فعلت ذلك، فلم عوقبت مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة؟ وأيضاً فلما خرج من بطنها صارت في الجنة كانت الملائكة والخزنة يرونه.
وثانيها : أن « إبليس » دخل الجَنَّة في صورة دَابّة، وهذا القول أقلّ فساداً من الأول.
وثالثها : قال بعض أَهْلِ الأصول : لعلّ آدم وحَوّاء - عليهما السلام - كانا يخرجان إلى باب الجنة، وإبليس كان بقرب الماء يُوَسْوِسُ لهما.
ورابعها : قال الحسن : كان إبليس في الأرض، وأوصل الوَسْوَسَةَ إليهما في الجنَة.
قال بعضهم : هذا بعيد؛ لأن الوسوسة كلام خفيّ، والكلام الخفيّ لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السَّماء.
واختلفوا في أن « إبليس » باشر خطابهما، أو أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه.
حجّة الأول : قوله تعالى :﴿ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين ﴾ [ الأعراف : ٢١ ] ﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ [ الأعراف : ٢٢ ]. وحجّة الثاني : أن آدَمَ وحواء - عليهما الصَّلاة والسَّلام - كان يعرفانه، ويعرفان ما عنده من العداوة والحَسَد، فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله، فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة بعض أتباع إبليس.


الصفحة التالية
Icon