قال : والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان، وإن كان فعله محظوراً؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جِهَةِ استحقاق الذَّم والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحقّ الشكر بإنعامه والذّم بمعصيته، فلم لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك؟ واعلم أن نعم الله على العَبْدِ لا تتناهى، ولا تحصى كما قال تعالى :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ]. فإن قيل : فإذا كانت النعم غير مُتَنَاهية، وما لا يتناهى لا يحصل به العلم في حق العبد، فكيف أمر بتذكرها في قوله :﴿ اذكروا نِعْمَتِيَ ﴾ ؟ والجواب : أنها غير مُتَنَاهية بحسب الأشخاص والأنواع، إلاّ أنها متناهية بحسب الأجناس، وذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصَّانع الحكيم. فصل في بيان هل لله نعمة على الكافر في الدنيا اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا؟ فمنهم من قال : هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدّية إلى الضرر في الآخرة لم تكن نعمة، فإن من جعل السّم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سَبيِلاً إلى الضرر العظيم، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ]. ومنهم من قال : إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدِّين، فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا [ وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله ]. قال ابن الخطيب : وهذا القول أصوب ويدلّ عليه وجوه : أحدها : قوله تعالى :﴿ يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] الآيات فأمر الكُلّ بطاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق. وثانيها : قوله تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] وذكره في معرض الامتنان، وشرح النعم، ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شَيْءٌ من النعم لما صَحّ ذلك. وثالثها : قوله :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ وهذا نصّ صريح؛ لأنه خطاب لأهل الكتاب، وكانوا من الكفار، وكذا قوله تعالى :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٧ ] إلى قوله :﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ [ البقرة : ٤٩ ]. ورابعها : قوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض ﴾ إلى قوله :﴿ وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً ﴾ [ الأنعام : ٦ ]. وخامسها : قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر ﴾ [ الأنعام : ٦٣ ] إلى قوله :﴿ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ [ الأنعام : ٦٤ ]. وسادسها : قوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٠ ] وقال في قصة « إبليس » :﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٧ ]. وسابعها : قوله :﴿ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض ﴾ [ الأعراف : ٧٤ ] وقال :﴿ قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين ﴾ [ الأعراف : ١٤٠ ]. وثامنها : قوله :﴿ ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ ﴾