﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ [ البقرة : ٨٩ ].
قوله :﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحَالِ، وعاملها : إما « تلبسوا » أو « تكتموا » إلاّ أن عمل « تكتموا » أولى لوجهين :
أحدهما : أنه أقرب.
والثاني : أن كتمان الحَقّ مع العلم به أبلغ ذمّاً، وفيه نوع مقابلة.
ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنه يستدعي الإضمار، ولا يجوز إضمار الحال؛ لأنه لا يكون إلا نكرةّ، ولذلك منعوا الإخبار عنه ب « الذي ».
فإن قيل : تكون المسألة من باب الإعمال على معنى أنا حذفنا من الأوّل ما أثبتناه في الثاني من غير إضمار، حتى لا يلزم المَحْظور المذكور، والتتقدير : ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون، ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.
فالجواب : أن هذا لايقال : فيه إعمال، لأن الإعمال يستدعي أن يضمر في المهمل، ثم يحذف.
وأجاز « ابن عطيَّة » ألا تكون هذه الجملة حالاً، فإنه قال :« ويحتمل أن تكمون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد ﷺ، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق، فعلى هذا لا تكون الجُمْلة في موقع الحال ». وفيما قاله نظر.
وقرىء شاذاً :« وَتَكْتُمُونَ » بالرفع، وخرجوها على أنها حَالٌ، وهذا غير صحيح؛ لأنه مضارع مثبت فمن حقه ألا يقترن بالواو، وما ورد من ذلك، فهو مؤول بإضمار متبدأ قبله، نحو :« قُمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ »، وقول الآخر :[ االمتقارب ]

٤٤٥ فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ نَجَوْتُ وأرْهَنُهُمْ مَالِكَا
أي :« وأَنَا أَصُكُّ »، و « أَنَا أَرْهَنُهُمْ »، وكذا « وأنتم تكتمون »، إلا أنه يلزم منه إشكال آخر، وهو أنهم منهيُّون عن اللّبس مطلقاً، والحال قيد في الجملة السابقة، فيكون قد نهوا بقيد، وليس ذلك مراداً إلاّ أن [ يقال : إنها حال لازمة، وقد قيّده « الزمخشري » ب « كاتمين »، فجعله حالاً، وفيه الإشكال المقتدّم، إلاّ أنه ] يكون أراد تفسير المعنى لا تفسير الإعرابن قال « ابن الخطيب » : وجواب الإشكال أنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل، وما لا يعرف كونه حقًّا وباطلاً لا يجوز الإقدام عليه بالنفي، ولا بالإثبات، بل يجب التوقّف فيه. وسبب ذكر هذا القيد أن الإقدام على الفعل الضَّار مع العلم بكونه ضارًّا أفحش من الإقدام عليه عند الجَهْلِ بكونه ضارّاً، فلما كانوا عالمين [ بما ] في التبليس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح.
ويجوز أن تكون جلمة خبرية عطفت على جملة طلبية، كأنه تعالى نَعَى عليهم كتمهم الحقّ مع علمهم أنه حق.
[ ومفعول ] العلم غير مُرَاد؛ لأن المعنى : وأنتم من ذوي العلم.
وقيل : حذف للعلم به، والتقدير : تعلمون الحقّ من الباطل.
وقدره « الزمخشري » :« وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون »، فجعل المفعول اللَّبْس والكَتْم المفهومين من الفعلين السابقين. وهو حسن.


الصفحة التالية
Icon