فنقول : كل نعمة ديِنيَّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى :﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ هو نعمة الإيْمَان، فرجع حاصل القول في قوله تعالى :﴿ ١٦٤٩; هْدِنَا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل، فيتفرع عليه أحكام :
الأول : أنه لما ثبت أن المرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله -تعالى- هو المنعم بالنعمة، ثبت أنّ الخالق للإيمان، والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة، وكان الإيمان أعظم النعم، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى، ولو كان كذلك لما حسن من الله -تعالى- أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.
الحكم الثاني : يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله :﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ مذكور في معرض التَّعظيم بهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة، فما كان يحسن من الله -تعالى- ذكره في معرض التعظيم.
الحكم الثالث : دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله -تعالى- رعاية [ الصلاح والأصلح ] في الدين؛ لأنه لو كان الإرشاد على الله -تعالى- واجباً لم يكن ذلك إنعاماً، وحيث سماه الله -تعالى- إنعاماً علمنا أنه غير واجب.
الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قدر المكلف عليه، وأرشده إليه، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ، لأن كل ذلك حاصل في حقّ الكفار، فلما خلص -تعالى- بعض المكلفين بهذا الإنعام، مع أن الإقدار، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار، وإزاحة الموانع.
قوله تعالى :﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾
« غير » بدل من « الذين » بدل نكرة من معرفة.
وقيل : نعت ل « الذين »، وهو مشكل؛ لأن « غير » نكرة و « الذين » معرفة، وأجابوا عنه بجوابين :
أحدهما : أن « غير » إنما يكن نكرة إذا لم يقع بين ضدّين، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية، فيتعرف « غير » حينئذ بالإضافة، تقول :« مررت بالحركة غير السكون » والآية من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج، وهو مرجوح.