فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية


قالت المعتزلة :« المراد ثم عفونان عنكم بسبب إتيانكم بالتَّوْبَة، وهي قتل بعضكم بَعْضاً ».
قالت بن الخطيب : وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : أن قبول التوبة وَاجبٌ عَقْلاً، ولو كان المُرَاد ذلك لما جاز عدُّه في معرض الإنعام، لأن أداء الواجب لا يُعَدّ من باب الإنعام، والمقصود من هذه الآيات تَعْدِيْدُ نِعَمِ الله تعالى عليهم.
الثاني : أن العَفْوَ اسم لإسقاط العقاب المستحقّ؛ وأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه، وذلك لا يُسمَّى عَفْواً، ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم، فإذا ترك عذابه لم يكن الترك عفواً، فكذلك هاهنا.
إذا ثبت هذا فنقول : لا شَكّ في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى :﴿ فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٥٤ ] وإذا كان كذلك دَلَّت الآية على أن قَبُولَ التوبة غير واجب عَقْلاً، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه تعالى أسقط عُقُوبَةَ من يجوز عقابه عقلاً، وشرعاً، وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة، وإذا ثبت أنه عفا عن كفّار قوم موسى، فلأن يعفوا عن فُسّاق أمة محمد ﷺ مع أنهم خير أمة أُخرجت للنَّاس كان أولى.
قوله :« لَعَلَّكُمْ تِشْكُرُونَ ».
« تَشْكُرُونَ » في محل رفع خبر « لعلّ »، وقد تقدّم تفسير الشكر عند ذكر الحمد. وقال الراغب : هو تصور النعمة وإظهارها.
وقيل : هو مقلوب عن الكَشْر أي : الكَشْف، وهو ضدّ الكفر، فإنه تَغْطِيَةُ النعمة وقيل : أصله من « عَيْن شَكْرى » أي : ممتلئة، فهو على هذا الامتلاء من ذكر المنعم عليه.
و « شَكَر » من الأفعال المتعدّية بنفسها تارةً، وبحرف الجرِّ أُخْرَى، وليس أحدهما أصلاً للآخَرِ على الصحيحن فمن المتعدِّي بنفسه قوله عَمْرِو بْنِ لُحَيِّ :[ الطويل ]
٤٩٠ هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ فَهَلاَّ شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَاتِلِ
ومن المتعدِّي بحرف الجر قوله تعالى :﴿ واشكروا لِي ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ]، وسيأتي هنا تحقيقُهُ.

فصل في الرد على المعتزلة


قالت المعتزلة : إنه تعالى بَيَّن أنه عفا عنهم، ولم يؤاخذهم لكي يشركوا، وذلك يدلّ على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر.
والجواب : لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك، أنما شرط أن يحصل للشَّاكر داعية للشكر أولاً بهذا الشرط، والأول باطل؛ إذ لو أراد ذلك بهذا الشِّرط، فإن كان هذا الشرط من العَمْدِ لزم افتقار الدَّاعية إلى داعية أخرى، وإن كان من الله بحيث خلق الله الدَّاعي حصل الشكر لا محالة، وحيث لم يخلق الدَّاعي استحال حُصُول الشكر، وذلك ضد قول المعتزلة، وإن أراد حصول الشُّكر منه من غير هذه الداعية، فقد أراد منه المُحَال؛ لأن الفِعْلَ بدون الدواعي مُحَال. فثبت أن الإشكال ورادٌ عليهم.


الصفحة التالية
Icon