واعلم أن سؤال النَّوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض منها : أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين مَلّوه سنةً، فاشْتَهَوْا غيره.
ومنها : لعلّهم ما تعودوا ذلك النوع، وإما تعودوا سائر الأنواعن ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رَغْبته فيما لم يَعْتَدْهُ وإن كان شريفاً.
ومنها : لعلهم ملوا البقاء في التِّيْه، فسألوه هذه الأطعمة التي لا توجد إلاَّ في البلاد، وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس الأطعمة.
ومنها : أن المُوَاظبة على نوع واحد سببٌ لنقصان الشهوة، وضعف الهَضْم، وقلّة الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلكن فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم، فثبت أن هذا القَدْرَ لا يجوز أن يكون معصية، ومما يؤكد ذلك أن قوله :﴿ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ ﴾ كالإجابة لما طلبوا، ولو كانوا عاصين في ذلك السُّؤال لكانت الإجابة إليه معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء، لا يقال : إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال :﴿ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾ [ الشورى : ٢٠ ] لأن هذا خلاف الظاهر.
واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه :
الأول : قولهم : لن نصبر على طعامٍ واحدٍ يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المَنَ والسلوى، فتلك الكراهة معصية.
الثاني : أن قول موسى ﷺ ك ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ ﴾ استفهام على سبيل الإنكار، وذلك يدلّ على كونه معصية.
الثال : أن موسى ﷺ وصف ما سألوه بأنه أدنى، ما كانوا عليه بأنه خير، وذلك يدلّ على ما قلناه.
والجواب عن الأول : أن قولهم :﴿ لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ ليس فيه دليل على أنهم كرهوه، بل اشتهوا شيئاً آخر؛ لأن قلهم : لن صبر إشارةٌ إلى المستقبلح لأن « لن » لنفي المستقبل، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع.
وعن الثاني : بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأ نفع في الدنيا، وقد يكون لما فيه من تَفْويت الأنفع في الآخرة.
وعن الثالث : بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن، ومن حيث إنه حصل بِلاَ كَدّ و لا تَعَب، فكما يقال ذلك في الحاضر، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه : إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكَدّ، فلا يمتنع أن يكون مراده ﷺ هذا المعنى، أو بعضه، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصية، بل كان سؤالاً مباحاً، وإذا كان كذلك فقوله :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله ﴾، لا يجوز أن يكون لما تقدم؛ بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله ﴾ إلى آخره.