في مناسبة هذه القصة لما قبلها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تعالى لما عدد النعم المتقدمة على بني إسرائيل كإنزال المَنّ والسَّلْوَى، ورفع الطُّور، وغير ذلك ذكر بعده هذه النعم الت بها بيّن البريء من غيره وذلك من أعظم النعم.
الثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم التَّشْديدات والتعنُّت كقوله :﴿ أَرِنَا الله جَهْرَةً ﴾ [ النساء : ١٥٣ ] وقولهم :﴿ لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ [ البقرة : ٦١ ]، وغير ذلك من التعنُّت ذكر بعده تعنتاً آخر، وهو تعنتهم في صفة البقرة.
الثالث : ذكرها معجزة للنبيّ ﷺ لأنه أخبر بهذه القصّة من غير تعلّم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
وهذه الآية متأخرة في المعنى دون التلاوة عن قوله :﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ﴾ [ البقرة : ٧٢ ] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
والجمهور على ضم الرَّاء في « يَأْمُرُكم » ؛ لأنه مضارع معرب مُجَرّد عن ناصب وجازم، وروي عن أبي عمرو سكونها سكوناً محضاً، واختلاس الحركة، وذلك لتوالي الحركات، لأن الراء حرف تكرير، فكأنها حرفان، وحركتها حركتان.
وقيل : شبَّهها ب « عَضْد » فَسُكِّن أوسطه إجراء للمنفصل مجرى المتصلن وهذا كما تقدم في قراءة ﴿ بَارِئِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٥٤ ] وقد تقدم ذكر من استضعفها من النُّحَاة، وتقدّم ذكر الأجوبة عنه.
ويجوز إبدال همزة « يَأمُرُكمْ » ألفاً، وهذا مطرد.
و « يأمركم » هذه الجُمْلة في محلّ رفع خبر ل « إن »، و « إن » وما في حيّزها في محلّ نصب مفعولاً بالقول، والقول وما في حيّزه في محلّ جرّ بإضافة الظرف إليه، والظرف معمول لفعل محذوف أيك اذكر.
قوله :﴿ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ أن وما حيّزها مفعول ثانِ ل « يأمركم »، فموضعها يجوز أن يكون نصباً، وأن يكون جرَّا على ما مضى من الخلاف، لأن الأصل على إسقاط حرف الجر أي بأن تَذْبَحُوا، يجوز أن يوافق الخليل هنا على أن موضعها نصب؛ لأن هذا الفعل يجوز حذف الباء معه، ولو لم تكن الباء في « أن » نحو :« أمرتكم الخير ».
و « البقرة » واحدة البقر، تقع على الذّكر والأنثى نحو :« حَمَامة »، والصِّفة تميز الذّكر من الأنثى، تقول : بقرة ذكر، وبقرة أنثى.
وقيل : بقرة اسم للأنثى خاصّة من هذا الجنس مقابل الثور، نحو : نَاقَة وجَمَل، وأَتَان وحِمَار.
وسمي هذا الجنس بذلك، لأنه يَبْقُر الأرض، أي : يشقّها بالحرث، ومنه : بَقَرَ بطنه، والباقر أبو جعفر، لشقِّه العلم، والجمع « بَقَر وَبَاقِر وَبَيْقُور وَبَقِير ».
و « البَقِيرة » : ثوب يشقّ فتلقيه المرأة في عنقها من غير كُمَّين.

فصل في قصة القتيل


روي عن ابن عباس وسائر المفسرين : أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له ليرثه، وقيل : لينكح زوجته، وقيل : إن ابن أخيه قتله ليتزوج ابنته، وكان امتنع من تزويجها له، فقتله ثم رماه في مجمع الطريق، ثم شكا ذلك إلى موسى ﷺ فاجتهد موسى في أن يعرف القاتل، فلما لم يظهر قالوا : قل لربك « بَيِّنْه » فأوحى الله إليه أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة [ فعجبوا ] من ذلك، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهما حالاً بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعينت لم يجدوها بذلك النَّعت إلاَّ عند إنسان معيّن ولم يبعها إلاَّ بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها، وأمرهم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أن يأخذوا عُضْواً منها، فيضربوا به القتيل، ففعلوا فأحيا الله القتيل، وسمى لهم قاتلهم، وهو الذي ابتدأ بالشّكاية فقتلوه [ فوراً ].


الصفحة التالية
Icon