وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية؛ لأن قوله :« ومَا كَادُوا » معناه ما قاربوا الفعل، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل، فلو كانت « كاد » للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية، وقد تقدم الكلام معلى كاد عند قوله :﴿ يَكَادُ البرق ﴾ [ البقرة : ٢٠ ].
فصل في النسخ بالأشقّ
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لو ذبحوا آيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم؛ لكنه شددوا على أنفسهم، فشدد الله تعالى عليهم، فعلى هذا نقول : التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت، فلما لم يفعلوا كلفوا بأن تكون لا فارضاً ولا بكراً، قيل : عَوَان، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا كُلِّفوا أن تكون مع ذلك لا ذَلُول تثير الأرض ولا تسقي الحرث؛ لأنه قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان، فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدلّ على نسخ الأسهل بالأشقّ على جواز النسخ قبل الفعل، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى ﷺ وعلى أن الزيادة على النصح نسخ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولاً، وعلى أن الأمر للوجوب والفور؛ لأنه تعالى ذمَّ التثاقل فيه، والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه، ولم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر.
قال القاضي : إنما وجب؛ لأن فيه إزالة شرّ وفتنة، فأمر تعالى بذبح البقرة، لكي يظهر القاتل، فيزول الشَّر والفتنة، فلما كانت المصلحة في هذا الفعل صار واجباً.
وقال بعضهم : إما أمروا بذبح بقرة معيّنة في نفسها، فلذلك حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به إذا كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام، وعلى القول الأول لا بُدّ من بيان ما الذي حملهم على [ هذا ] الاستفسار؟
فقيل : إن موسى عليه الصلة والسلام لما أمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيصير حيًّا تعجبوا من ذلك، وظنوا أنّ تلك البقرة التي لها هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عنها كَعَصا موسى المخصوصة من بين سائر العصِيّ بتلك الخواص، إلاّ أن القوم أخطئوا في ذلك؛ لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصة للبقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى ﷺ.
وقيل : لعلّ القوم أردوا أَيَّ بقرة معينة لا مطلق البقرة، فلما وقعت المنازعة رجعوا عند ذلك إلى موسى ﷺ.
قال القُشيريّ في تفسيره : قيل : إن أوّل من راجع موسى عليه الصَّلاة والسلام في البحث عن البقرة القاتل خوف أن يفتضح، وقد وجدت تلك البقرة عند الشّاب.
وقيل : إن الخطاب الأول للعموم، إلاَّ أن القوم أرادوا الاحتياط فيه، فسألوا طلباً لمزيد البيان، وإزالة سائر الاحتمالات إلاّ أن المصلحة تغيرت، واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة.