[ الحشر : ٢١ ].
وثانيها : أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال : وإن كانت قاسيةً، بل منصرفة على مراد الله تعالى غير ممتنعة، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتّصَال الآيات عندهم، وتتابع نِعَمِ الله عليهم يمتنعون من الطاعة، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله.
وثالثها : أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة.

فصل في الرد على المعتزلة


قال القاضي : إن كان الدَّوام على الكفر مخلوف فيهم، فكيف يحسن ذمهم؟ فلو قال : إن الذي خلق الصَّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القَسْوة، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكُفر بخلق الإيمان فينا، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أَوْكد من حجّته عليهم، وهذا النمط قد تكرر مراراً.
قوله :﴿ وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار ﴾.
واعلم أنه سبحانه وتعالى فَضَّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع.
فأولها : قوله :« وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار » واللاّم في « لَمَا » لام الابتداء دخلت على اسم « إن » لتقدم الخبر، وهو « من الحجارة »، وهي « ما » التي بمعنى « الذي » في محلّ النصب، ولو لم يتقدم الخبر لم يَجُزْ دخول اللام على الاسم؛ لئلاَّ يتوالى حَرْفاً تأكيد، وإن كان الأصل يقتضي ذلك، والضمير في « منه » يعود على « ما » حملاً على اللفظ.
قال أبو البقاء : ولو كان في غير القرآن لجاز « منها » على المعنى.
وهذا الذي قاله قد قرأ به أُبّي بن كعب والضحاك.
وقرأ مالك بن دينار « يَنْفَجِر » من الانفجار.
وقرأ قتادة :« وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ » بتخفيف « إنْ » من الثقيلة، وأتى باللام فارقة بينها وبين « إن » النافية، وكذلك :« وَإِنْ منْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ » و « إنْ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط »، وهذه القرءاة تحتمل أن تكون « ما » فيها في محل رفع وهو المشهور، وأن تكون في محلّ نصب؛ لأن « إنْ » المخففة سمع فيها الإعمال والإهمال، قال تعالى :﴿ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ﴾ [ هود : ١١١ ] في قراءة من قرأه.
وقال في موضع آخر :﴿ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا ﴾ [ يس : ٣٢ ] إلا أن المشهور الإهمال.
والتفجير : الفتح بالسّعة والكثرة؛ يقال : انفجرت قرحة فلان أي : انشقت بالمدّة، ومنه : الفَجْر والفُجُور.

فصل في تولد الأنهار


قالت الحكماء : الأنهار إنما تتولّد عن أَبْخِرَةٍ تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رَخْواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجريّاً اجتمعت تلك الأَبْخِرَةُ، ولا يزال يتصل بعضها ببعض حتى تكثر كثرة عظيمة، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مَدِّها أن تنشقّ الأرض، وتسيل تلك المياه أوديةً وأنهاراً.


الصفحة التالية
Icon