فصل في الاستفتاح


اختلفوا في هذا الاستفتاح، فقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والسّدي : نزلت في بني « قريظة » و « النضير » كانوا يستفتحون على « الأوس » و « الخزرج » برسول الله ﷺ قبل المبعث.
وقال أبو مسلم : كانوا يقولون لمخالفيهم : غداً القتال هذا نبي قد أظلّ زمان مولده، ويصفونه بأنه نبي، ومن صفته كذا، ويتفحّصون عنه على الذين كفروا، أي : على مشركي العرب.
وقيل : إن اليهود وقبل مبعث النبي محمد ﷺ كانوا يستفتحون أي : يسألون الفَتْح والنصر، وكانوا يقولون : اللّهم افتح علينا، وانصرنا بالنبي الأمّيّ [ المبعوث ] في آخر الزمان الذي نجد صِفَتَهُ في التوراة، وكانوا يستنصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظلّ زماننا نبيٌّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قَتْلَ عَادٍ وإرَم، فلما جاءهم ما عرفوا يعني محمداً ﷺ من غير بني إسرائيل، وعرفوا نَعْتَهُ وصدقه كفروا به بَغْياً.
[ وقيل :] نزلت في أَحْبَار اليهود كانوا إذا قرأوا وذكروا محمداً في التوراة، وأنه مبعوث من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصِّفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث وهذه الآية دلّت على أنهم كانوا عارفين بنبوته.
فإن قيل : التوراة نقلت نقلاً متواتراً، فإما أن يقال : إنه حصل فيها نعت محمد ﷺ على سبيل التَّفصيل أعني بيان أن الشَّخص الموصوف بالصُّورة الفلانية، والسيرة الفلانية سيظهر في السَّنة الفلانية في المكان الفُلاني، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شَهَادَةِ التوراة على صدق محمد ﷺ فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب؟ وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة [ كون محمد ﷺ رسولاً فكيف قال تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ والجواب : أن الوصف المذكور في التوراة ] كان وصفاً إجمالياً، وأن محمداً ﷺ لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف، بل كانت كالمؤكدة، فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار.
قال ابن الخطيب : وأما كُفْرهم فيحتمل أنهم كانوا يظنّون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل، وكانوا يرغبون النَّاس في دينه، ويدعونهم إليه، فلما بعث الله محمداً من العرب من نسل إسماعيل عَظُمَ ذلك عليهم، فأظهروا التكذيبن وخالفوا طريقهم الأول. وهذا فيه نظر؛ لأنهم كانوا عالمين أنه من العرب.
ويحتمل أنهم لأجل اعترافهم بنوّته كان يوجب عليهم زوال رِيَاسَتِهِمْ وأموالهم، فَأَبَوْا وأصرُّوا على الإنكار.
ويحتمل أنهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصّة، فلا جرم كفروا به.
قوله :﴿ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين ﴾ جحملة من مبتدأ أو خبر متسببة عمّا تقدم، والمصدر هنا مضاف للفاعل، وأتى ب « على » تنبيهاً على أن اللَّعْنة قد استعلت عليهم وشملتهم. وقال :« على الكافرين » ولم يقل :« عليهم » إقامة للظَّاهر مقام المضمر، لينبّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفر.


الصفحة التالية
Icon