فإن قيل : كيف يجوز أن يسمى ما يوضح إظهار الحقّ سِحْراً، وهو إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر، ولفظ السحر إنما يفيد الظاهر؟
فالجواب : إنما سمي السَحر سحراً لوجهين :
الأول : أن ذلك القَدْر لِلُطْفه وحسنه استمال القلوب، فأشبه السّحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه.
الثاني : أنَّ القادر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً، وتقبيح ما يكون حسناً فأشبه السحر من هذا الوجه.

فصل في ماهية السحر


قال بعض العلماء : إن السِّحر تخيُّل لا حقيقة له، لقوله تعالى :﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى ﴾ [ طه : ٦٦ ].
وقيل : إنه حقيقة؛ لأنَّ النبي ﷺ سحره لبيد بن الأعصم فإن السحر أخرج من بئر، وحلت عقوده، وكلما انحلت عقدة خفَّ عنه عليه السلام إلى أن سار كما نشط من عقال.
وذهب ابن عمر إلى « خيبر » ليخرص ثمرها فسحره بعض اليهود فانكشفت يده، فأجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه وجاءت امرأة لعائشة رضي الله عنها فقالت : يا أم المؤمنين ما على المرأة إذا عقلت بيرها، فقالت عاشئة : ليس عليها شيء، فقالت : إني عقلت زوجي عن النساء، فقالت عائشة : أخرجوا عني هذه الساحرة.
وأجابوا عن الآية بأنها لا تمنع بأنَّ من السحر ما هو تخيّل، وغير تخيل.
فإن قيل : إن الله تعالى قال في حقَّه عليه السَّلام :« واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » فكيف أثر فيه السحرُ؟
فالجواب أن قوله تعالى :﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية، فإنه عليه السلام قد سحر وكسرت رباعيته، ورُمي عليه الكرش والثرب، وآذاه جماعة من قريش.
قال ابن الخطيب : السِّحر على أقسام :
الأول : سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها يصدر الخير والشر والفرح والسرور والسعادة والنحوسة، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم ﷺ مبطلاً لمقالتهم ورادًّا عليهم وهم ثلاث فرق :
الاولى : الذين زعموا أن الأفلاك والكواكب واجبة في ذواتها، وأنه لا حاجة بها إلى موجد ومدبر وخالق، وهي المدبّرة لعالم الكون والفساد، وهم الصَّابئة الدهرية.
والفريق الثاني : القائلون بإلاهية الأفلاك، وقالوا : إنها هي المؤثّرة للحوادث باستدارتها وتحرّكها، فعبدوها وعظّموها، اتخذوا لكل واحد منهما هيكلاً مخصوصاً وصنماً معيناً، واشتغلوا بخدمتها، فهذا دين عبدة الأصنام والأوثان.
والفريق الثالث : الذين أثبتوا لهذه الأفلاك والنُّجوم فاعلاً مختاراً خلقها وأجدها بعد العدم إلاَّ أنهم قالوا : إن الله تعالى تعالىّ أعطاهم قوة عالية نافذة في هذا العالم، وفوض تدبير هذا العالم إليها.


الصفحة التالية
Icon