ومما يدل علة فساد قول من قال : الهدى هو العلم خاصة أن الله -تعالى- وصف القرآن بأنه هدى، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.

فصل في اشتقاق المتقي


والمتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتَّقى، والوقاية : فرط الصيانة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقيّ : من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله : الحجز بين شيئين.
وفي الحديث :« كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله ﷺ ».
أي : إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب، وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار :« حدثني عن التقوى، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ؟ قال : نعم، قال : فما عملت فيه؟ قال : حذرت وشَمّرت، قال كعب : ذلك التَّقوى ». وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله، وأداء ما افترض الله، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.
وقال ابن عمر : التَّقوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الله -تعالى- ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح، [ ولن يكون ذلك ] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات، محترزاً عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَغائر في التقوى؟ فقال بعضهم : يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد.
وقال آخرون : لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟
فروي عنه -E- أنه قال :« لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَراً مما به بَأسُ ». وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه.
واعلم أن حقيقة التقوى، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة؛ كقوله تعالى :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى ﴾ [ الفتح : ٢٦ ] أي : التوحيد ﴿ أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى ﴾ [ الحجرات : ٣ ]، ﴿ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ﴾ [ الشعراء : ١١ ] أي : لا يؤمنون.
وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ]، ﴿ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون ﴾ [ المؤمنون : ٥٢ ].
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى :﴿ وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] أي : فلا تعصوه.
وتارة الإخلاص كقوله :﴿ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب ﴾ [ الحج : ٣٢ ] أي : من إخلاص القلوب.
وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً، والقرآن لا يكون هدى للمتقين؟
والجواب : أن القرآن كما أنه هدى للمتقين، ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى صدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا، وانتفعوا به كما قال :


الصفحة التالية
Icon