وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال :« لأنَّ الفعل لا يتفق »، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد يه المفعول. والرزق لغة : العَطَاء، وهو مصدر؛ قال تعالى :﴿ وَمَن رزقناه مِنَّا رِزْقاً حَسَناً ﴾ [ النحل : ٧٥ ] وقال الشَّاعر :[ البسيط ]
١٢٧- رُزِقْتَ مَلاً وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ | إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا |
وقيل :« الرِّزْق » -بالفتح- مصدر، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة : الشّكر، ومنه :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [ الواقعة : ٨٢ ].
وقال بعضهم : ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى الولد والعَبْد.
وقيل : هو نصيب الرجل، وما هو خاص له دون غيره.
ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل؛ لأن الله -تعالى- أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال :﴿ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا ﴾ [ المنافقون : ١٠ ]، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه.
وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً؛ لأن الإنسان قد يقول : اللهم ارزقني ولداً صالحاً، أو زوجة صالحة، وهو لا يملك الولد ولا الزَّوجة، ويقول : اللَّهم أرزقني عقلاً أعيش به، والعقل لي بمملوك، وأيضاً البهيمة يحصل له رزقٌ ولا يكون لها ملك. وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي : الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاعِ بالشيء، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به.
فإذا قلنا : قد رزقنا الله الأموال، فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها، وإذا سألنا -تعالى- أن يرزقنا مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ.
واعلم أن المعتزلة لما فسّروا الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا : الحرام لا يكون رزقاً. وقال أصحابنا : الحرام قد يكون رزقاً.
قال ابن الخطيب : حُجّة الأصحاب من وجهين :
الأول : أنّ الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظَّا ونصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له.
الثَّاني : أنه تعالى قال :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا ﴾ [ هود : ٦ ]، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة، فوجب أن يقال : إنه طول عمره لم يأكل من رزق شيئاً.
أما المعتزلة : فقد احتجُّوا بالكتاب، والسُّنة، والمعنى :
أما الكتاب فوجوه :
أحدها : قوله تعالى :﴿ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [ البقرة : ٣ ] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق.
ثانياً : لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى :﴿ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [ المنافقون : ١٠ ]، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [ مما أخذه ]، بل يجب رَدّه، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً.