وقرأ زيد بن عليٍّ :« خَيْرٌ » بالرفع، أي : المُنزَّلُ خيرٌ، وهي مُؤيِّدة لجعل « مَاذَا » موصولة، وهو الأحسن؛ لمطابقة الجواب لسؤاله، وإن كان العكس جائزاً، وقد تقدم تحقيقه في البقرة.
قوله :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ ﴾ هذه الجملة يجوز فيها أوجه :
أحدها : أن تكون منقطعة عما قبلها استئناف إخبار بذلك.
الثاني : أنَّها بدلٌ من « خَيْراً ». قال الزمخشري :« هو بدلٌ من » خَيْراً « ؛ حكاية لقول » الَّذينَ اتَّقوا «، أي : قالوا هذا القول فقدَّم تسميته خبراً ثمَّ حكاه ».
الثالث : أنَّ هذه الجملة تفسير لقوله :« خَيْراً »، وذلك أنَّ الخير هو الوحيُ الذي أنزل الله فيه : من أحسن في الدنيا بالطاعةِ؛ فله حسنةٌ في الدنيا، وحسنةٌ في الآخرة.
وقوله :﴿ فِي هذه الدنيا ﴾ الظاهر تعلقه ب « أحْسَنُوا »، أي : أوقعوا الحسنة في دار الدنيا، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حكاية حالٍ من « حَسنةً »، إذ لو تأخر؛ لكان صفة لها، ويضعف تعلقه بها نفسها؛ لتقدمه عليها.
فصل
قال المفسرون : إنَّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي ﷺ فإذا جاء [ سائل ] المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقولون : ساحر، وكاهن، وشاعر وكذاب، كذبوا النبي ﷺ، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمدٍ ﷺ وما أنزل عليه؛ فيقولون « خَيْراً »، أي أنزل خيراً، ثم ابتدأ فقال :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ ﴾ أي كرامة من الله.
قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : هي تضعيفُ الأجر إلى العشرة. وقال الضحاك : هي النصرة والفتح. وقال مجاهدٌ : هي الرزقُ الحسن، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خيرٌ.
وقولهم « خَيْراً » جامع لكونه حقاً وصواباً، ولكونهم معترفين بصحته، ولزومه وهذا بالضدِّ من قول الذين لا يؤمنون : إن ذلك أساطير الأولين. وتقدم الكلام على « خَيْرٌ » في سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿ وَلَلدَارُ الآخرة خَيْرٌ ﴾ [ الأنعام : ٣٢ ].
ثم قال تعالى :﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾، أي ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة فحذفت؛ لسبق ذكرها.
هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، فإن وصلتها بما بعدها قلت :﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ برفع « جَنَّاتُ » على أنها اسم ل « نِعْمَ » كما تقول : نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزلُهَا زَيْدٌ.
قوله ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح؛ فيجيء فيها ثلاثة أوجهٍ :
رفعها بالابتداءِ، والجملة المتقدمة خبرها.
أو رفعها بالابتداءِ، والخبر محذوف؛ وهو أضعفها، وقد تقدم تحقيق ذلك.