قال ابن الخطيب : وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه :
أحدها : أنَّ كلمة « إذَا » لا تفيد التكرار؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته :« إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ » فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له : كن فيكون، فلم يلزم التَّسلسلُ.
وثانيها : أن هذا الدليل إن صح، لزم القول بقدم لفظ « كُنْ » وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأنَّ لفظة « كُنْ » مركبة من الكاف والنُّون، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة، وعند مجيء النون تفوت الكاف، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة « كُنْ » يمتنع كونها قديمة، وإنَّما الي يدعي أصحابنا قدمه صفة [ مغايرة ] للفظ :« كُنْ » فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية؛ فسقط التمسك به.
ثالثها : أنَّ الرجل إذا قال : إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ، ولا على فعل، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف؛ فكذلك ما قالوه.
ورابعها : أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه :
الأول : أن قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ ﴾ يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة؛ فيكون محدثاً.
الثاني : أنه علق القول بكلمة « إذَا » وهي إنَّما تدخل للاستقبال.
الثالث : أن قوله تعالى :﴿ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال.
الرابع : أن قوله « كن فَيكُونُ » كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد؛ يجب أن يكون محدثاً.
الخامس : أنه معارض بقوله تعالى :﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] و ﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ [ الأحزاب : ٣٨ ] و ﴿ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] و ﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ الطور : ٢٤ ] و ﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً ﴾ [ الأحقاف : ١٢ ] فإن قيل : فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام، فما الجواب عنه؟.
قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف، والأصوات، ونحن نقول بكونه محدثاً.
قوله :﴿ والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾ الآية.
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، على إنكار البعث، دلَّ ذلك على تماديهم في الغيِّ والجهل، ومن هذا حاله، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين؛ بالضَّرب، وغيره من العقوبات؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم، ومساكنهم فذكر - تعالى - في هذه الآية حكم تلك الهجرة، وبيَّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة؛ من حيث هاجر، وصبر، وتوكَّل على الله - تعالى - وذلك ترغيبٌ لغيرهم في طاعة الله - تعالى -.


الصفحة التالية
Icon