[ الأنعام : ١٨ ].

فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة


دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب؛ لأن قوله ﴿ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ يدلُّ على أنهم منقادون لخالقهم، وأنهم ما خالفوه في أمرٍ من الأمور، كقوله ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾ [ مريم : ٦٤ ]، وقوله :﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٧ ]، وكذلك قوله - جل وعز- :﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب.
فإن قيل : هب أن الآية دلت على أنَّهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فلم قلتم : إنها تدلُّ على أنهم تركوا كل ما نُهوا عنه؟.
فالجواب : أنَّ كلَّ من نهى عن شيءٍ، فقد أمر بتركه؛ وحينئذ يدخل في اللفظ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلِّ الذنوب، وثبت أنَّ إبليس ما كان معصوماً من الذنوب، بل كان كافراً؛ لزم القطع بأنَّ إبليس ما كان من الملائكةِ، وأيضاً : فإنه - تعالى - قال في صفة الملائكة :﴿ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾، ثم قال تعالى لإبليس ﴿ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين ﴾ [ ص : ٧٥ ] وقال :﴿ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣ ] وثبت أنَّ الملائكة لا يستكبرون، وثبت أنَّ إبليس تكبَّر، واستكبر، فوجب أن لا يكون من الملائكة.
وللخصم أن يجيب بأن إبليس لو لم يكن من الملائكة، لما ذمَّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمرِ، ومن الاستكبار، فلما خالف الأمر، واستكبر، خرج من حيّز الملائكة، ولعن، وطرد؛ لأنه خالف المعهود من حاله.
قال ابن الخطيب - رحمه الله - « ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة، ثبت أنَّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقِّ هاروت وماروت باطلة، فإن الله - تبارك وتعالى - وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنبٍ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة ».
واحتجَّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنَّ الله - تعالى - وصفهم بالخوف، ولولا أنهم يجوِّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب، وإلاَّ لم يحصل الخوفُ والجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - حَذَّرهم من العقاب؛ فقال ﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٩ ] فللخوف من العذاب يتركون الذنب.
الثاني : أن ذلك الخوف خوف الإجلال؛ هكذا نقل عن ابن عباس؛ كقوله تعالى ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ] وكقول النبي ﷺ « إنِّي لأخْشَاكُم للهِ » حين قالوا له وقد بكى : أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر؟.
وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ، كان الخوف منه أعظم. وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء.

فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم


استدل المشبهة بقوله تعالى :﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ﴾ على أنه - تعالى - فوقهم بالذات.


الصفحة التالية
Icon