والثاني : كونه متَّصلاً، فلو كان منفصلاً؛ جاز، نحو : زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو.
وقال مكي :« وهذا لا يجوز عند البصريين، كما لا يجوز : جعلت لي طعاماً إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً، فلو كان لفظ القرآنِ : ولأنفسهم ما يشتهون، جاز ما قال الفرَّاء عند البصريين، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل، وبسطٍ كثيرٍ ».
وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ « مَا » في موضع نصبٍ عن الفرَّاء، ومن تبعه- : وقال أبو البقاءِ، وقد حكاهُ؛ وفيه نظرٌ.
قال شهابُ الدِّين :« وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه، إنَّما جعله في تضعيفه، بكونه يؤدِّي غلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني، فإنه قال :» وضعَّف قومٌ هذا الوجه، وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم، وفيه نظرٌ « فجعل النظر في تضعيفه لا فيه ».
وقد يقال : وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل، أي : وقوعه على ما جر بالحرف، نحو :« زيد مرَّ بِهِ » فإن المرور واقعٌ ب « زيدٍ »، وأمَّا ما نحن فيه، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين، بل ما يشتهون.
وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى :﴿ وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة ﴾ [ مريم : ٢٥ ] ﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب ﴾ [ القصص : ٣٢ ].
والجواب عنهما ما تقدَّم، وهو أنَّ الهزَّ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر، وإنَّما أعدته لصعوبته، وخصوصيته، هذا بزيادة فائدة، وأراد بقوله :﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧ ] أي : الشيء الذي يشتهونه، وهو السَّترُ.
ثمَّ إنه - تعالى - ذكر أنَّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت لنفسه فالذي لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله - تعالى - فقال تعالى :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ﴾.
التَّبْشيرُ في عرف اللغة : مختصٌّ بالخبر الذي يفيد السرور، إلا أنَّ أصله عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغيير بشرة الوجه، ومعلومٌ أن السُّرورَ كما يوجب تغير البشرة، فكذلك الحزن يوجبه؛ فوجب أن يكون التَّبشيرُ حقيقة في القسمين، ويؤكِّده قوله تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ آل عمران : ٢١ ]. وقيل : المراد بالتَّبشير ههنا الإخبار.
قوله :﴿ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ﴾ يجوز أن تكون « ظلَّ » ليست على بابها من كونها تدلُّ على الإقامة نهاراً على الصِّفة المسندة إلى اسمها، وأن تكون بمعنى :« صَارَ » وعلى التقديرين هي ناقصة، و « مُسْودًّا » خبرها.


الصفحة التالية
Icon