قوله تعالى :﴿ والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ الآية اعلم أنَّ المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول اربعة : الإلهيَّات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة : تقرير الإلهيَّات، فلهذا السَّبب كلَّما امتد الكلام في فصل من الفصول، عاد إلى تقرير الإلهيَّات، فههنا لمَّا امتد الكلام في وعيد الكفار، عاد إلى تقرير الإلهيَّات، فقال :﴿ والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ وقد تقدَّم تقرير هذه الدَّلائلِ.
وقال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ سماع إنصاف وتدبُّر؛ والمراد : سماع القلوب لا سماع الآذان.
والنوع الثاني من الدَّلائلِ : الاشتدلالُ بعجائب أحوالِ الحيواناتِ.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ ﴾ والعِبرةُ : العِظةُ.
قرأ ابن كثير، و أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي « نُسْقِيكمْ » بضمِّ النون هنا، وفي المؤمنين، والباقون بفتح النون فيهما.
وهذه الجملة يجوز أن تكون مفسِّرة للعبرة، كأنه قيل : كيف العبرة؟ فقيل : نسقيكم من بين فرثٍ، ودم لبناً خالصاً، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ، [ مضمر ]، والجملة جواب لذلك السؤال، أي : هي، أي : العبرة نسقيكم، ويكون كقوله :« تَسْمعُ بالمُعيْديِّ خَيرٌ مِنْ أن تَراهُ ».
واختلف النَّاس : هل سَقَى، وأسْقَى لغتان بمعنى واحدٍ، أم بينهما فرقٌ؟.
خلافٌ مشهورٌ، فقيل : هما بمعنى واحد، وأنشد جمعاً بين اللغتين فقال :[ الوافر ]

٣٣٣٣- سَقَى قَومِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى نُمَيْراً والقَبائِلَ من هِلال
دعى للجميع بالسقي، والخصب، و « نُمَيْراً » هو المفعول الثاني، أي : ما نميراً، وللداعي لأرض بالسقيا وغيرها : أسقى فقط.
وقال الأزهري - C- : العرب تقول لكلِّ ما كان من بطُونِ الأنعام، ومن السَّماء، أو نهر يجري أسقيته، أي : جعلته شرباً له، وجعلت له منه مسقى، فإذا كان للمنفعة قالوا :« سَقَى »، ولم يقولوا :« أسْقَى ».
وقال الفارسيُّ :« سقيْتهُ حتَّى رَوِيَ، وأسْقَيتهُ نَهْراً جَعَلتهُ لَهُ شرباً ».
وقيل : سقاهُ إذا ناوله الإناء؛ ليشرب منه، ولا يقال من هذا أسقاه.
وقرأ أبو رجاء « يُسْقِيكُمْ » بضمِّ الياء من أسفل، وفي فاعله وجهان :
أحدهما : هو الله - تعالى-.
والثاني : أنه ضمير النَّعم المدلول عليه بالأنعام، أي : نعماً يجعل لكم سقياه.
وقرئ :« تَسْقِيكُمْ » بفتح التاء من فوق. قال ابن عطيَّة : وهي ضعيفةز
قال أبو حيَّان :« وضعفها عنده - والله أعلم - أنه أنَّث في :» نُسقِيكُم « وذكر في قوله :» ممَّا في بطُونهِ «، ولا ضعف من هذه الجهة؛ لأنَّ التَّذكير، والتَّأنيث باعتبارين ».
قال شهابُ الدِّين : وضعفها عنده من حيث المعنى، وهو أنَّ المقصود الامتنان على الخلقِ، فنسبة السقي إلى الله هو الملائمُ لا نسبته إلى الأنعام.


الصفحة التالية
Icon