فإن قيل : هذه المعاني حاصلةٌ في الحيوان الذَّكر، فلم لم يحصل منه اللَّبنُ؟ قلنا : الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت تدبير كلِّ شيءٍ على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته، فمزاج الذَّكر من كلِّ حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً، ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً، والحكمة فيه أنَّ الولد إنَّما يتكوَّن في داخل بدن الأنثى؛ فوجب أن يكون بدن الأنثى مختصاً بمزيد الرطوبات لوجهين :
الأول : أنَّ الولد إنما يتولَّد من الرطوبات، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد.
والثاني : أنَّ الولد إذا كبر، وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتَّمدد؛ حتى يتسع لذلك الولد، فإذا كانت الرُّطوبات غالبة على بدنِ الأم، كان بدنها قابلاً للتَّمدد؛ فيتسع للولد، فثبت بما ذكرنا أنه - تعالى - خصَّ بدن الأنثى من كل حيوانٍ بمزيد الرُّطجوبات لهذه الحكمة، ثم إنَّ تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم، فعند انفصال الجنين، تنصب إلى الثَّدي، والضرع، ليصير مادَّة لغذاءِ ذلك الطفل الصَّغير، فظهر أنَّ السبب الذي لأجله يتولَّد اللَّبن من الدَّم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذَّكر، فظهر الفرقُ.
وقد تقدَّم ما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - في أنَّ الفرث يكون في أسفل الكرش، والدم يكون في أعلاه، و اللبن يكون في الوسطِ، وبيَّنَّا أنَّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة.
واعلم أنَّ حدوث اللَّبن في الثدي، واتِّصافه بالصِّفات الموافقة لتغذية الطفل مشتمل على حكم عجيبة، يشهد صريح العقل بأنَّها لا تحصل إلاَّ بتدبير الفاعل الحكيمِ والمدبر الرحيم، وبيانه من وجوه :
الأول : أنه - تعالى - خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاءِ فإذا تناول الإنسان غذاء، أو شربة رقيقة؛ انطبق ذلك المنفذُ انطباقاً كليًّا، لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول، والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد، ويبقى الثقل هناك، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ، وينزل منه ذلك الثقل، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصل الانطباق تارة، و الانفتاح أخرى، بحسب الحاجة، وتقدير المنفعة ممَّا لا يتأتَّى إلا بتدبير الفاعل الحكيم.


الصفحة التالية
Icon