﴿ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا ﴾ [ الزلزلة : ٤، ٥ ].
واعلم أن الوحي قد ورد في حقِّ الأنبياء؛ قال - تعالى - :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ [ الشورى : ٥١ ]، وفي حقِّ الأولياء؛ قال - تعالى - :﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين ﴾ [ المائدة : ١١١ ] وبمعنى الإلهام في حقِّ بقية البشر؛ قال - تعالى- :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى ﴾ [ القصص : ٧ ] وفي حقِّ سائر الحيوانات بمعنى خاصّ.
قال الزجاج : يجوز أن يقال : سمِّي هذا الحيوان نحلاً؛ لأن الله - تعالى - نحل النَّاس العسل الذي يخرج من بطونها.
وقال غيره : النَّحل يذكَّر ويؤنث على قاعدة أسماء الأجناس، فالتأنيث فيها لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله - تعالى - وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلاَّ الهاء.
وقرأ ابن وثَّاب :« النَّحَل » بفتح الحاء، فيحتمل أن يكون لغة مستقلة، وأن يكون إتباعاً.
قوله « أن اتَّخذِي » يجوز أن تكون مفسِّرة، وأن تكون مصدريَّة.
واستشكل بعضهم كونها مفسِّرة، قال : لأنَّ الوحي هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو الإلهام لا قول فيه.
وفيه نظر؛ لأن القول لكل شيء بحسبه.
و « مِنَ الجِبَالِ » « من » فيه للتبعيض؛ إذ لا يتهيَّأ لها ذلك في كل جبلٍ ولا شجر، وتقدَّم القول في « يَعْرِشُون » ومن قرأ بالكسر والضم في الأعراف.
والمراد ب « ممَّا يَعْرِشُونَ » ما يبنون لها من الأماكن التي تأوي إليها، وقرئ :« بِيُوتاً » بكسر الباء.

فصل


اعلم أن النَّحل نوعان :
أحدهما : ما يسكن الجبال والغياض ولا يتعهَّدها أحد من النَّاس.
والثاني : ما يسكن البيوت ويتعهَّدها الناس، فالأول هو المراد بقوله تعالى :﴿ أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر ﴾.
والثاني هو المراد بقوله - تعالى - ﴿ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ وهو خلايا النحل، واختلفوا فيه.
فقال بعضهم : لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول مخصوصة، بحيث يمكن أن يتوجَّه عليها أمر الله ونهيه.
وقال آخرون : المراد منه أنه - تعالى - خلق غرائز وطبائع توجبُ هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك في قوله - تعالى - :﴿ ياأيها النمل ﴾ [ النمل : ١٨ ] إن شاء الله - تعالى-.
ثم قال - تعالى - :﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات ﴾ « مِنْ » هنا للتبعيض؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات؛ فهو كقوله :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ النحل : ٢٣ ] أو لابتداء الغاية.
قال ابن الخطيب : رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبًَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان، وذلك محسوس، فالقسم الأول : هو الذي الهم الله - تعالى - هذا النَّحل، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها، وتأكلها وتتغذى بها، فإذا شبعت، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل.


الصفحة التالية
Icon