ولمَّا ذكر الله - تعالى - أمر المسكن، ذكر بعده أمر الملبُوسِ؛ فقال - جل ذكره- :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ والسَّرابيل : القُمص واحدها سربال.
قال الزجاج - C- :« كل ما لبسته فهو سِرْبال، من قميصٍ أو دِرْعٍ أو جَوشنٍ أو غيره » ؛ وذلك لأن الله - تعالى - جعل السَّرابيل قسمين :
أحدهما : ما يقي الحرَّ والبرد. والثاني : ما يتقى به من البأسِ والحروب.
فإن قيل : لم ذكر الحرَّ ولم يذكر البرد؟.
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب، وبلادهم حارَّة [ يابسة ]، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرَّ أشدَّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد : كما قال - سبحانه وتعالى - ﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ ﴾ وسائر أنواع الثياب أشرف، إلا أنه - تعالى - ذكر هذا النَّوع؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر.
والثاني : قال المبرِّد : ذكر أحد الضِّدَّين تنبيه على الآخر؛ كقوله :[ الطويل ]

٣٣٥٨- كَأنَّ الحَصَى من خَلْفِهَا وأمَامِهَا إذَا حَذفَتْهُ رجْلُهَا خَذفُ أعْسَرَا
لمَّا ثبت في العلوم العقليَّة أن العلم بأحد الضِّدين يستلزم العلم بالضدِّ الآخر، فإنَّ الإنسان إذا خطر بباله الحر، خطر بباله البرد أيضاً وكذا القول في النُّور والظلمة، والسَّواد والبياض.
الثالث : قال الزجاج :« وما وقَى من الحرِّ وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن الآخر ».
فإن قيل : هذا بالضدِّ أولى؛ لأن دفع الحرِّ يكفي فيه السَّرابيل التي هي القُمص دون تكلُّف زيادة، أما البرد فإنَّه لا يندفع إلا بزيادة تكلُّف.
فالجواب : أن القميص الواحد لمَّا كان دافعاً للحر، كانت السَّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يُتِمُّ ﴾، أي : مثل ذلك الإتمام السابق، ﴿ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾ في المستقبل.
وقرأ ابنُ عباس - رضي الله عنهما - :« تَتِمُّ » بفتح التاء الأولى، « نِعْمَتُهُ » بالرفع على الفاعلية، وقرأ أيضاً :« نِعَمَهُ » جمع نعمة مضافة لضمير الله - تعالى -، وقرأ أيضاً :« لعلكم تَسْلَمُونَ » بفتح التاء واللام مضارع سَلِمَ من السلامة، وهو مناسب لقوله :« تَقِيكُم بَأسكُمْ » ؛ فإنَّ المراد به الدُّروع الملبوسة في الحبب، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله.
قوله :« فإنْ تَولَّوا » يجوز أن يكون ماضياً، ويكون التفاتاً من الخطاب المتقدِّم، وأن يكون مضارعاً، ولأصل : تتولَّوا، قحذف نحو :« تَنزَّلُ وتَذَّكرُونَ » ولا التفات على هذا، بل هو جارٍ على الخطاب السَّابق.
ومعنى الكلام : فإن أعرضوا، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير، وليس عليك إلاَّ ما فعلت من التَّبليغ التَّام.
قوله :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ ﴾ هو جواب الشَّرط، وفي الحقيقة جواب لشرط محذوف، أي : فأنت معذور، وأتى ذلك على إقامة السَّبب مقام المسبب؛ وذلك لأن تبليغه سبب في عذره، فأقيم السَّبب مقام المسبب، ثمَّ ذمَّهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وذلك نهاية في كفران النِّعمة، وجيء ب طثُمَّ « هنا للدَّلالة أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة؛ لأنَّ من عرف النِّعمة حقُّه أن يعترف لا أن ينكر، وفي المراد بالنِّعمة وجوه :
قال القاضي : هي جميع ما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدِّمة، ومعنى إنكارهم : أنهم ما أفردوه - تعالى - بالشُّكر والعبادة، بل شكروا غيره وقالوا : إنما حصلت هذه النعمة بشفاعة الأصنام.


الصفحة التالية
Icon