والمعتمد في الجواب مسألة العلم والدَّاعي.

فصل


اتَّفق المتكلِّمون من أهل السنَّة ومن المعتزلة على أن تذكُّر الأشياء من فعل الله - تعالى - لا من فعل العبد؛ لأنَّ التذكُّر عبارة عن طلب المتذكر، فحال الطَّلب إمَّا أن يكون لديه شعور أو لا يكون؛ فإن كان له شعور به، فذلك الذِّكر حاصلٌ، والحاصل لا يطلب تحصيله، وإن لم يكن له به شعور، فكيف يطلبه بعينه؛ لأنَّ توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون بعينه متصوراً محال.
إذا ثبت هذا، فقوله :﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ معناه : أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكُّر، فإذا لم يكن التذكر فعلاً له، فكيف طلب منه تحصيله؟ وهذا هو الذي يحتجُّ به أهل السنَّة على أنَّ قوله :﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ لا يدلُّ على أنه - تعالى - يريد ذلك منه.
قوله - تعالى - :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾ الآية لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد.
قال الزمخشري : عهد الله : هي البيعة لرسول الله ﷺ على الإسلام؛ لقوله - تعالى - :﴿ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ]، ﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ وقيل : كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره. قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : والوَعْدُ من العهد.
وقال ميمون بن مهران : من عاهدته، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً، فإنَّماوفاء العهد لله - تعالى -.
وقال الأصم : المراد منه الجهاد، وما فرض الله في الأموال من حق، وقيل : عهد الله هو اليمين بالله.
قال الشعبي : العهد يمين الله، وكفَّارته كفارة يمين، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه؛ لقوله - ﷺ - :« مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ وليكفرْ عن يَمينهِ ».
واعلم أن قوله - تعالى - :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾ يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه، ويؤيِّده قوله - تعالى - بعد ذلك :﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ﴾، وأيضاً : يجب ألا يحمل العهد على اليمين؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين، لكان قوله بعد ذلك :﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ تكرار؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك؛ إلاَّ إذا قلنا : إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما اتقدَّم، يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه عهد الجهاد، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات والمؤكدات بالحلف.


الصفحة التالية
Icon