ومعنى « أرْبَى من أمَّةٍ » ؛ أي : أزيدُ في العدد، والقوَّة، والشَّرف.
ثم قال - جل ذكره- :﴿ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ ﴾، أي يختبركم الله بأمره إيَّاكم بالوفاءِ بالعهد.
والضمير في « به » يجوز أن يعود على المصدر المنسبك من « أنْ تَكُونَ »، تقديره : إنَّما يَبلُوكمُ الله بكون أمَّة، أي : يختبركم بذلك.
وقيل : يعود على الرِّبا المدلول عليه بقوله :« هي أرْبَى ».
وقيل : على الكثرة؛ لأنَّها في معنى الكثير.
قال ابن الأنباري رحمه الله تعالى : ملا كان تأنيثها غير حقيقي، حملت على معنى التَّذكير؛ كما حملت الصَّيحة على الصِّياح ولم يتقدم للكثرة للفظ، وإنما هي مدلول عليها بالمعنى من قوله تعالى :﴿ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾.
ثم قال :﴿ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ في الدُّنيا، فيميِّز المحقَّ من المبطل.
قوله - تعالى- :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ الآية لما أمر القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه - تعالى - قادرٌ على أن يجمعهم على هذا الوفاء، وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنَّه - سبحانه وتعالى جل ذكره - بحكم الألوهية يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء.
والمعتزلة حملوا ذلك على الإلجاء، أي : لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر، لقدر عليه، إلاَّ أنَّ ذلك يبطل التَّكليف، فلا جرم ما ألجأهم إليه، وفوَّض الأمر إلى اختيارهم، وقد تقدَّم البحث في ذلك.
وروى الواحدي رحمه الله : أنَّ عزيراً قال : ربِّ، خلقت الخلق فتضلُّ من تشاء وتهدي من تشاء، فقال : يا عزير، أعرض عن هذا، فأعاده ثانياً، فقال : يا عزير أعرض عن هذا، فأعاده ثالثاً، فقال : أعرض عن هذا وإلا محوتُ اسمك من [ ديوان ] النبوَّة.
قالت المعتزلة : ومما يدلُّ على أن المراد من هذه المشيئة مشيئته الإلجاء أنه - تعالى - قال بعده :﴿ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فلو كانت أعمال العباد بخلق الله - تعالى-، لكان سؤالهم عنها عبثاً، وتقدَّم جوابه.
قوله تعالى- :﴿ وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾ وليس المراد منه التَّحذير عن نقض مطلق الأيمان، وإلاَّ لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها.
فلهذا قال المفسرون : المراد : نهي الذين بايعوا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عن نقض عهده؛ لأن قوله :﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾ لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله ﷺ على الإيمان به وبشرائعه.
وقوله - تعالى- :﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾ منصوب بإضمار « أنْ » على جواب النهي.


الصفحة التالية
Icon