الثالث : وصفهم بالغفلة، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه، فثبت أن المراد بهذا الطَّبع السِّمة والعلامة التي يخلقها في القلب، وتقدَّم الجواب في أول سورة البقرة.
ثم قال - تعالى - :﴿ وأولئك هُمُ الغافلون ﴾ قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : أي : عما يراد بهم في الآخرة.
ثم قال :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون ﴾، أي : المغبونون، والموجب لهذا الخسران أنه - تعالى - وصفهم بصفاتٍ ستة :
أولها : أنهم استوجبوا غضب الله.
وثانيها : أنَّهم استحقُّوا العذاب الأليمَ.
وثالثها : أنَّهم استحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة.
ورابعها : أنه - تعالى - حرمهم من الهِدايةِ.
وخامسها : أنه - تعالى - طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
وسادسها : أنه - تعالى - جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة، فكل واحد من هذه الصِّفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات، ومعلوم أنه - تعالى - إنما أدخل الإنسان في الدنيا؛ ليكون كالتَّاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة، عظم خسرانه؛ فلهذا قال - تعالى - :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون ﴾ أي هم الخاسرون لا غيرهم.
قوله - تعالى - :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ الآية لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحال من أكره على الكفر ذكر [ بعده ] حال من هاجر من بعد ما فتن.
في خبر « إنَّ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : قوله - تعالى - :﴿ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، و « إنَّ ربَّكَ » الثانية، واسمها تأكيد للأولى واسمها؛ فكأنه قيل : ثمَّ إنَّ ربّك إنَّ ربَّك لغفور رحيم، وحينئذ يجوز في قوله :« للَّذِينَ » وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بالخبرين على سبيل النتازع، أو بمحذوف على سبيل البيان؛ كأنه قيل : الغفران والرحمة للَّذين هاجروا.
الثاني : أن الخبر هو نفس الجار بعدها؛ كما تقول : إنَّ زيداً لك، أي : هو لك لا عليك، بمعنى : هو ناصرهم لا خاذلهم، قال معناه الزمخشري، ثم قال :« كما يكون الملك للرجل لا عليه، فيكون محميًّا منفُوعاً غير مضرورٍ ».
قال شهاب الدِّين :« قد يتوهَّم أن قوله :» مَنْفُوعاً « استعمال غير جائز؛ لما قاله الأهوازي عليه رحمة الله في شرح موجز الرماني : إنَّه لا يقال : مَنْفُوع » اسم مفعول من نفعته، فإن الناس قد ردُّوا على الأهوازي «.
الثالث : أن خبر الأولى مستغنًى عنه بخبر القانية، يعني : أنه محذوف لفظاً؛ لدلالة ما بعده عليه، وهذا معنى قول أبي البقاء :»
وقيل : لا خبر ل « إنَّ » الأولى في اللَّفظ؛ لأنَّ خبر الثانية أغنى عنه «.


الصفحة التالية
Icon