قوله :﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ ﴾ يجوز أن ينتصب « يَوْمَ » ب « رَحِيمٌ » ولا يلزم من ذلك [ تقييد ] رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رحم في هذا اليوم، فرحمته في غيره أحرى وأولى.
وأن ينتصب ب « اذكُر » مقدَّرة، وراعى معنى « كل » فأنث الضمائر في قوله « تُجَادلُ... إلى آخره » ؛ ومثله قوله :[ الكامل ]

٣٣٦٣- جَادَتْ عَليْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتركْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدَّرهَمِ
إلا أنه زاد في البيت الجمع على المعنى، وقد تقدَّم أول الكتاب.
وقوله :﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ حملاً على المعنى؛ فلذلك جمع.
فإن قيل : النَّفس لا تكون لها نفس أخرى، فما معنى قوله :« تُجادِلُ عن نَفْسِهَا » ؟.
فالجواب : أن النَّفْس قد يراد بها بدن [ الإنسان ] الحيّ، وقد يراد بها ذات الشيء وحقيقته، فالنفس الأولى هي الجثَّة والبدن، والثانية : عينها وذاتها؛ فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، ولا يهمه شأن غيره، قال - تعالى - :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٧ ].
روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب الأحبار : خوِّفنا، قال يا أمير المؤمنين : والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيًّا، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمُّك إلا نفسك، وإن لجهنَّم زفرة ما يبقى ملك مقرَّب، ولا نبي مرسلٌ غلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتَّى إن إبراهيم خليل الرحمن - صلوات الله وسلامه عليه - ليدلي بالخلَّة فيقول : يا ربِّ، أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي، وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم :﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾، ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار؛ كقولهم :﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾، ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار؛ كقولهم :﴿ هؤلاء أَضَلُّونَا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، وكقولهم :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ].
﴿ وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ﴾ فيه محذوف، أي : جزاء ما عملت من غير بخسٍ ولا نقصان، ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ لا ينقصون.
روى عكرمة عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - في هذه الآية قال :« ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تخاصم الرُّوح الجسد، فتقول الرُّوح : يا رب، لم تكن لي يدٌ أبطش بها، ولا رجلٌ أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا أذن أسمع بها، ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني، ويقول الجسد : يا ربِّ، أنت خلقتني بيدك، فكنت كالخشبة، وليس لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشُعَاع النُّور، فيه نطق لساني، وأبصرت عيني، ومشت رجلي، وسمعت أذني، فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني منه، قال : فيضرب الله لهما مثلاً؛ أعمى ومقعداً دخلا [ بستاناً ] فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثَّمر، والمقعد لا يتناوله، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، [ فغشيهما ] العذاب ».


الصفحة التالية
Icon