ووجه الاستعارة ما قال الزمخشري :« فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحَّتهما والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحَّة إيقاعها عليه؟.
قلت : الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة؛ لشيوعها في البلايا، والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون : ذاق فلانٌ البؤس والضر وإذاقة العذاب شبَّه ما يُدْرك من أثر الضَّرر والألم، بما يُدْرَك من طعم المُرّ والبشع، وأما اللِّباس فقد شُبِّه به؛ لاشتماله على اللاَّبس ما غشي الإنسان، والتبس به من بعض الحوادث، وأمَّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنَّه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس؛ فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في هذا طريقان :
أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظروا إليه ههنا؛ ونهحوه قول كثيرة عزَّة :[ الكامل ]

٣٣٦٦- غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبسَّمَ ضَاحِكاً غَلقَتْ لِضَْكتِهِ رِقَابُ المَالِ
استعار الرداء للمعروف، لأه يصون عرض صاحبه صون الرِّداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنَّوال لا وصف الرداء؛ نظراً إلى المستعار له.
والثاني : أن ينظر فيه إلى المستعار؛ كقوله :[ الوافر ]
٣٣٦٧- يُنَازِعُنِي رِدائِي عَبْدُ عَمرٍو رُوَيْدكَ يا أخَا عَمْرِو بِنِ بَكْرِ
لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلكَتْ يَمِينِي ودُونكَ فاعْتَجِرْ مِنْهُ بشَطْرِ
أراد بردائه : سيفه، ثم قال :»
فاعْتَجْرْ منهُ بِشطْرٍ « فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال : فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير : صافي الرِّداء إذا تبسَّم ضاحكاً » انتهى.
وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة.
وقال ابن عطية : لمَّا باشرهم، صار ذلك كاللِّباس؛ وهذا كقول الأعشى :[ المتقارب ]
٣٣٦٨- إذَا ما الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدهَا تَثَنَّتْ عَليْهِ فَكانَتْ لِبَاسَا
ومثله قوله - تعالى- :﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] ؛ ومثله قول الشاعر :[ الطويل ]
٣٣٦٩- وَقَدْ لَبِستْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجاشِعٌ لِباسَ الَّتي حَاضَتْ ولمْ تَغْسل الدِّمَا
كأن العار لما باشرهم ولصق بهم، كأنهم لبسوه.
وقوله :« فأذَاقَهَا » نظير قوله ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ﴾ [ الدخان : ٤٩ ] ؛ ونظيره قول الشاعر :[ الرجز ]
٣٣٧٠- دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فاحْسُ وذُقْ... وفي قراءة عبد الله :« فأذاقها الله الخوف والجوع » وفي مصحف أبيّ :« لِبَاسَ الخَوفِ والجُوعِ ».
قوله :﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ يجوز أن تكون « مَا » مصدريَّة أو بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي : بسبب صنعهم، أو بسبب الذي كانوا يصنعونه.
والواو في « يَصْنعُونَ » عائدة على « أهْل » المقدَّر قبل « قَرْيةٍ »، ونظيره قوله :﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤ ] بعد قوله :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ [ الأعراف : ٤ ].
قوله - تعالى - :﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ ﴾ الآية لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال :« ولقَدْ جَاءَهُم » يعني : أهل مكة، « رسُولٌ مِنهُمْ »، أي : من أنفسهم يعني : محمَّداً ﷺ ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب ﴾ قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : يعني الجوع.


الصفحة التالية
Icon