قوله :« للصَّابِرينَ » يجوز أن يكون عامًّا، أي : الصبر خير لجنس الصَّابرين، وأن يكون من وقوع الظَّاهر موقع المضمر، أي : صبركم خير لكم.
قوله :« إلاَّ بالله » أي : بمعونته، فهي للاستعانة.
قوله :« في ضَيْقٍ » قرأ ابن كثير هنا وفي النَّمل : بكسر الضاد، والباقون : بالفتح، فقيل : هما لغتان بمعنًى في هذا المصدر؛ كالقول والقِيل.
وقيل : المفتوح مخفَّف من « ضَيِّق » ؛ ك « مَيْت » في « مَيِّت »، أي : في أمر ضيِّق، فهو مثل هَيْن في هيِّن، و « لَيْن » في « لَيِّن »، قاله ابن قتيبة.
وردَّه الفارسي : بأن الصفة غير خاصة بالموصوف، فلا يجوز ادِّعاء الحذف ولذلك جاز : مررت بكاتب، وامتنع بآكلٍ.
وأما وجه القراءة بالفتح، قال أبو عبيدة الضيِّقُ بالكسر في قلَّة المعاش والمساكن، وما كان في القلب، فإنه الضَّيْق.
وقال أبو عمرو :« الضِّيقُ بالكسر : الشدَّة، والضَّيقُ بالفتح : الغمُّ ».
قوله تعالى :﴿ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ متعلق ب « ضَيْقٍ » و « مَا » مصدرية، أو بمعنى الذي، والعائد محذوف.

فصل


هذا من الكلام المقلوب؛ لأن الضَّيق صفة، والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة، فيكون المعنى : فلا يكن الضيق فيك؛ لأن الفائدة في قوله :﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ ﴾ هو أنَّ الضِّيق إذا عظم وقوي، صار كالشيء المحيط بالإنسان من الجوانب، وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في هذا اللفظ هذا المعنى.
المرتبة الرابعة : قوله :﴿ إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا ﴾ المناهي، ﴿ والذين هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ وهذا يجري مجرى التهديد؛ لأنه في المرتبة الأولى : رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي الثانية : عدل عن الرمز إلى التصريح، وهو قوله - تعالى- :﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾، وفي المرتبة الثالثة : أمر بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة : كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام، فقال :﴿ إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا ﴾ عن استيفاء الزيادة، ﴿ والذين هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ : في ترك أصل الانتقام؛ فكأنه قال : إن أردت أن أكون معك، فكن من المتَّقين ومن المحسنين، وهذه المعيَّة بالرحمة والفضل والتربية.
وقوله - تعالى- :﴿ الذين اتقوا ﴾ إشارة غلى التعظيم لأمر الله، وقوله - جل ذكره - ﴿ والذين هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله، وذلك يدلُّ على أن كمال سعادة الإنسان في التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله - تعالى -.
قيل لهرم بن حيَّان عند قرب وفاته : أوص، فقال : إنما الوصيَّة في المال ولا مال لِي، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل، قال بعضهم : إن قوله - جل ذكره- :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ منسوخ بآية السيف، وهذا في غاية البعد؛ لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفيَّة الدَّعوة إلى الله - سبحانه وتعالى-، وترك التَّعدي وطلب الزيادة، ولا تعلق بهذه الأشياء بآية السيف والله أعلم بمراده.
روى أبو أمامة، عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ :« مَنْ قَرَأ سُورَةَ النَّحل، لم يُحاسِبْه الله - تعالى - بالنَّعِيم الذي أنْعَم عليه في دَارِ الدُّنيَا، وأعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كالذي مات فأحْسَن الوصيَّة ».


الصفحة التالية
Icon