﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ [ سبأ : ١٢ ] بل نقول : الحسُّ يدل على أنَّ الرياح تنتقل عند شدَّة هبوبها من مكانٍ إلى مكانٍ في غاية البعد في اللَّحظة الواحدة، وذلك أيضاً يدلُّ على أنَّ مثل هذه الحركةِ السريعة في نفسها ممكنةٌ.
السادس : أن القرآن يدلُّ على أنَّ الذي عنده علمٌ من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمنِ إلى أقصى الشَّام في مقدار لمحِ البصر، قال تعالى :﴿ قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ [ النمل : ٤٠ ].
وإذا كان ذلك ممكناً في حقِّ بعض النَّاس، علمنا أنه في نفسه ممكنٌ.
السابع : أن من الناس من يقول : إنَّ الحيوان إنما يُبْصِرُ المرئيَّات لأجل أن الشُّعَاع يخرج من عينيه ويتَّصِل بالمرئيَّات، فإذا فتحنا العين، ونظرنا إلى شخصٍ، رأيناه، فعلى قولِ هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى الشخص في تلك اللحظة اللَّطيفة، وذلك يدلُّ على أنَّ الحركة الواقعة على هذا الحدِّ من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحدِّ أمرٌ ممكن الوجود في نفسه.
المقدمة الثانية : في بيان أنَّ هذه الحركة، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها، وجب ألاَّ يمتنع حصولها في جسم محمد ﷺ ؛ لأنَّه ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أن الأجسام متماثلةٌ في تمام ماهيَّتها، فلما صحَّ حصول مثل هذه الحركة في حقِّ بعض الأجسام، وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام، وذلك يوجب القطع بأنَّ حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد ﷺ أمر ممكن الوجود في نفسه.
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بالدَّليل أنَّ خالق العالم قادرٌ على كلِّ الممكنات، وثبت أنَّ حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحدِّ في جسد محمد ﷺ ممكنٌ؛ فوجب كونه تعالى قادراً عليه، فلزم من مجموع هذه المقامات : أن القول بثبوت هذا المعراج أمرٌ ممكن الوجود في نفسه، أقصى ما في الباب أنَّه يبقى التعجُّب، إلاَّ أن التعجُّب غير مخصوص بهذا المقام، بل هو حاصلٌ في جميع المعجزات، فانقلابُ العصا ثعباناً يبلع سبعين ألف حبلٍ من الحبالِ والعصيِّ، ثم تعودُ في الحال عصاً صغيرة، كما كانت أمرٌ عجيبٌ، وخروج الناقة من الجبلِ الأصمِّ أمرٌ عجيبٌ، وإظلال الجبل في الهواء أمرٌ عجيبٌ، وكذا سائر المعجزات، فإن كان مجرَّد التعجب يوجبُ الإنكار والدفع، لزم الجزم بفساد القول بنبوة كل الأنبياء عليهم السلام، لكن القول بإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة، وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال، فكذا هنا.

فصل في ترجيح القول بالإسراء بالجسد والروح


قال المحقِّقُون : إنه تعالى أسْرَى بروح محمَّد ﷺ وجسده من مكَّة إلى المسجد الأقصى؛ ويدلُّ عليه القرآن والخبر : أما القرآن، فهذه الآية؛ وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والرُّوح، قال تعالى :


الصفحة التالية
Icon