وأما في الدنيا؛ فلأنَّ مصالح الدنيا لا تتمُّ إلا باللَّيل والنَّهار، فلولا الليل، لما حصل السُّكون والرَّاحة، ولولا النهار، لما حصل الكسب والتَّصرُّف.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل ﴾ وعلى هذا تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين، والتقدير : فمحونا الآية الَّتي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهارُ مبصرة، ونظيره قولنا : نفس الشيء وذاته، فكذلك آيةُ الليل هي نفس الليل، ومنه يقال :« دَخلتُ بلادَ خُراسَان » أي : دخلت البلاد الَّتي هي خُراسَانَ، فكذا ها هنا.
وقيل : على حذف مضاف، أي : وجعلنا نيِّري اللَّيل والنهار، وقد تقدَّم.
وفي تفسير « المَحْوِ » قولان :
الأول : ما يظهر في القمر من الزيادة والنُّقصان، فيبدو في أوًّل الأمْرِ في صورة الهلالِ، ثمَّ يتزايدُ نورهُ، حتَّى يصير بدراً كاملاً، ثم ينقص قليلاً قليلاً، وذلك هو المحوُ، إلى أن يعود إلى المحاقِ.
والثاني : أنَّ نور القمر هو الكلفُ الذي يظهر في وجهه، يروى أن الشمس والقمر كانا سواءً في النُّور.
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه :« جَعلَ الله تعالى نُور الشَّمس سبعينَ جُزْءاً، ونُورَ القمر سبْعينَ جُزْءاً، فمحا من نور القمر تسعة وستِّين جزءاً، فجعلها مع نُور الشمس، فأرسلَ الله تعالى جبريل - ﷺ - فأمرَّ جناحه على وجه القمر، فطمس عنه الضَّوء ».
ومعنى « المَحْوِ » في اللغة : إذهاب الأثرِ، تقول : مَحوْتهُ أمْحوهُ، وانْمَحَى، وامْتَحَى : إذا ذَهبَ أثره.
وحمل المَحْوِ ها هنا على الوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ اللام في قوله :﴿ لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾ متعلق بالوجه الأول، وهو محوُ آية الليل، وجعل آية النهار مبصرة؛ لأنَّ بسبب اختلاف أحوال نور القمر تعرف السِّنون والحساب، ويبتغى فضل الله تعالى.
وأهلُ التجارب بيَّنوا أنَّ اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل أحوال البحار ف يالمدِّ والجزرِ، ومثل أحوال التجربات على ما يذكره الأطباء في ك تبهم، وبسبب زيادة نُور القمر ونقصانه تحصل الشهور، وبسبب معاودة الشُّهور تحصل السِّنون العربية المبنية على رؤية الهلالِ.
ويمكن أيضاً إذا حملنا المحو على الكلف أن يكون برهاناً قاهراً على صحَّة قول المسلمين في المبدأ والمعاد؛ لن جرم القمر بسيطٌ عند الفلاسفة، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدلُّ على أنه ليس بسبب الطبيعة، بل لأجل أن الفاعل المختار خصَّص بعض أجزائه بالنُّور الضعيف وبعض اجزائه بالنور القوي، وذلك يدل على أن مدبِّر العالم فاعلٌ مختارٌ بالذَّات، واعتذر الفلاسفة عنه بأنَّه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز وجه الكواكب في أجرام الأفلاك، فلمَّا كانت تلك الأجرام أقلَّ ضوءاً من جرم القمر، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر، كالكلف في وجه الإنسان، وهذا ليس بشيء؛ لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء، فحصول تلك الأجرام الظلمانيَّة في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء ليس إلاَّ لمخصِّصٍ حكيم، وكذلك القولُ في أحوال الكواكب؛ لأنَّ الفلك جرمٌ بسيطٌ متشابه الأجزاء، فلم يكَن حصول جرم الكواكب ف يبعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب، وذلك يدلُّ على أنَّ اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعيَّن من الفلك لأجلِ تخصيص العالم الفاعل المختار.