فإن قيل : أنكرتْ عائشة وغيرها ذلك، وقالت لما ذكر لها حديث ابن عمر : يغفر الله لأبي عبد الرَّحمن، أما إنَّهُ لمْ يكذبْ ولكنَّه نَسِيَ أو أخطأ إنَّما مَرَّ رسول الله ﷺ على يهودية يبكى عليها، فقال ﷺ :« إنَّهُمْ لَيبْكُونَ عَليْهَا وإنَّها لتُعذَّبُ في قَبْرهَا » متَّفقٌ عليه.
ولمُسْلم : إنَّما مرَّ رسول الله ﷺ على قبرِ يهوديٍّ، فقال :« إنَّه ليُعذَّبُ بِخَطيئَتِه أو بِذنْبهِ، وإنَّ أهلَهُ ليَبْكُونَ عليْهِ الآنَ ».
وفي رواية متَّفق عليها : إنما قال رسول الله ﷺ :« إنَّ الله ليَزيدُ الكافر عذاباً بِبُكاءِ أهْلهِ عليْهِ » وقالت : حسبكمُ القُرآنُ ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ [ الإسراء : ١٥ ] وقال بعض العلماء : إنَّما هذا فيمن أوصى أن يناح عليه كما كان أهل الجاهليَّة.
والجواب أنه يجب قبول أن الحديث لا يمكن ردُّه؛ لثبوته وإقرار أعيان الصَّحابة له على ظاهره.
وعائشة - رضي الله عنها - لم تخبر أنَّ النبي ﷺ نفى ذلك، وإنَّما تأوَّلتْ على ظاهر القرآن، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر.
وظاهر القرآن لا حجَّة فيه؛ لأنَّ الله - تعالى - نفى أن يحمل أحد من ذنب غيره شيئاً، والميِّتُ لا يحمل من ذنب النائحة شيئاً، بل إثمُ النَّوح عليها، وهو قد يعذَّب من جهة أخرى بطريق نوحها، كمن سنَّ سنَّة سيئة، مع من عمل بها، ومن دعا إلى ضلالة، مع من أجابه.
والحديث الذي روتهُ حديثٌ آخر لا يجوز أن يردَّ به خبر الصَّادق؛ لأنَّ القوم قد يشهدون كثيراً ممَّا لا تشهد، مع أنَّ روايتها تحقِّق ذلك الحديث؛ فإنَّ الله - تعالى - إذا جاز أن يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذِّب الميت ابتداء ببكاء أهله.
ثم في حديث ابن رواحة وغيره ممَّا تقدَّم ما ينصُّ على أن ذلك في المسلم؛ فإنَّ ابن رواحة كان مسلماً، ولم يوص بذلك، ثمَّ إنَّ الصحابة الذين رووه، لو فهموا منه الموصي، لما عجبوا منه، وأنكره من أنكره؛ فإنَّ من المعلوم أنَّ من أمر بمنكرٍ، كان عليه إثمه، ولو كان ذلك خاصًّا بالموصِي، لما خص بالنَّوح، دون غيره من المنكراتِ، ولا بالنَّوح على نفسه، دون غيره من الأموات.
وق لبعض العلماء : لمَّا كان الغالب على النَّاس النَّوح على الميِّت، وهو من أمور الجاهليَّة التي لا يدعونها في الاسلام، ولا يتناهى عنها أكثر النَّاس خرِّج الحديث على الأعمِّ الأغلب فيمن لم ينه عن النَّائحة، وهي عادة النَّاس، فيكون تركهُ للنَّهي مع غلبةِ ظنِّه بأنَّها تفعل إقراراً للمنكرِ وتركاً لإنكاره، فيعذب على ما تركه من الإنكار، ورضي به من المنكر، وأما من نهى عنه، وعصي أمره، فالله أكرم من أن يعذِّبه.