المترف في اللغة : المُنَعَّم، والغنيُّ : الَّذي قد أبطرته النِّعمة، وسعةُ العيش.
قوله تعالى :﴿ فَفَسَقُواْ فِيهَا ﴾ أي : خرجوا عمَّا أمرهم الله.
﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا القول ﴾ : أي : وجب عليها العذاب.
﴿ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ أي : خرَّبناها، وأهلكنا من فيها، وهذا كالتقرير، لقوله - تعالى- :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]. وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً ﴾ [ القصص : ٥٩ ].

فصل في الاحتجاج لأهل السنة


استدلَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم من وجوه :
الأول : أنَّ ظاهر الآية يدل على أنَّه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء، ثم توسَّل إلى إهلاكهم بهذا الطريق؛ وهذا يدلُّ على أنَّه - تعالى - إنما خصَّ المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنَّهم يفسقون، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى أراد منهم الفسقَ.
الثالث : أنه - تعالى - قال :﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا القول ﴾ أي : حقَّ عليها القول بالتَّعذيب والكفر، ومتى حقَّ عليها القول بذلك، امتنع صدور الإيمان منهم؛ لأنَّ ذلك لا يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وذلك محالٌ، والمفضي إلى المحال محالٌ.
قال الكعبيُّ - رحمه الله - إنَّ سائر الآيات دلَّت على أنَّه - تعالى - لا يبتدئ بالتعذي والإهلاك؛ لقوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [ الرعد : ١١ ]. وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٧ ] وقوله - عز ذكره :﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [ القصص : ٥٩ ].
وكلُّ هذه الآيات تدل على أنَّه لا يبتدئ بالإضرار، وأيضاً : ما قبل هذه الآية يدلُّ على هذا المعنى، وهو قوله - تعالى- :﴿ مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ [ الإسراء : ١٥ ].
ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض؛ فثبت أنَّ هذه الآيات محكمة، والآيات التي نحن في تفسيرها مجملة؛ فيجب حمل هذه الآية علىتلك الآيات.
واعلم أنَّ أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة :« القَفَّالُ » - رحمه الله تعالى - فإنه ذكر وجهين :
الأول : أنه - تعالى - أخبر أنَّه لا يعذِّب أحداً بما يعلمه منه، ما لم يعمل به أي : لا يجعل علمه حجَّة على من علم أنَّه إذا أمره عصاه، بل يأمره، فإذا ظهر عصيانه للنَّاس، فحينئذٍ يعاقبه.
وقوله - تعالى- :﴿ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾.
معناه : وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم بظهور معاصيهم، فحينئذ ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾. أي : أمرنا المنعَّمينَ فيها المتعزّزين الظَّانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم تردُّ عنهم بأسنا بالإيمان والعمل بشرائع ديني، على ما يبلّغهم عنّي رسولي، ففسقوا، فحينئذ يحقُّ عليهم القضاء السابق بإهلاكهم، لظهور معاصيهم، فحينئذ أدمِّرُها.


الصفحة التالية
Icon