فالجواب أن قوله تعالى :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانا ﴾ يدلُّ على أنَّ حقَّ الله متقدِّم على حقِّ الأبوين، فإقدام إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - على ذلك الإيذاء، إنَّما كان تقديماً لحق الله تعالى على حقِّ الأبوين.
قوله تعالى :﴿ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة ﴾.
والمقصود المبالغة في التواضع، وهذه استعارة بليغة.
قال القفَّال - رحمه الله تعالى- : وفي تقريره وجهان :
الأول : أنَّ الطائر، إذا أراد ضمَّ فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنَّه قال للولد : اكفل والديك؛ بأن تَضمَّهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني : أنَّ الطائر، إذا أراد الطَّيران، نَشرَ جناحيه، ورفعهما؛ ليرتفع، وإذا أراد ترك الطيران، خفض جناحيه، فجعل خفض الجناحِ كناية عن التواضع واللِّين.
وقال الزمخشري :« فإن قلت : ما معنى جناح الذلِّ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك، كما قال :﴿ واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٨٨ ] فأضافه إلى الذُّلِّ [ أو الذِّلِّ ]، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذَّليل أو الذَّلول.
والثاني : أن تجعل لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً؛ كما جعل لبيد للشَّمال يداً، وللقرَّة زماماً، في قوله :[ الكامل ]
مبالغة في التذلُّل والتواضع لهما » انتهى، يعني أنه عبَّر عن اللين بالذلِّ، ثم استعار له جناحاً، ثم رشَّح هذه الاستعارة بأن أمره بخفض الجناح.٣٤٠٥- وغَداةِ رِيح قد كَشفْتُ وقَرَّةٍ إذْ أصَبْحَتْ بِيدِ الشَّمالِ زِمامُهَا
ومن طريف ما يحكى : أن أبا تمامٍ، لمَّا نظم قوله :[ الكامل ]
٣٤٠٦- لا تَسْقِني مَاءَ المَلامِ فإنَّني | صبٌّ قد اسْتعذَبْتُ مَاء بُكائِي |
٣٤٠٧- أرَاشُوا جَناحِي ثُمَّ بلُّوه بالنَّدى | فلمْ أسْتطِعْ من أرْضهِمْ طَيرانَا |
قوله :« من الرَّحمة » فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها للتعليل، فتتعلق ب « اخفِضْ »، أي : اخفض من أجل الرَّحمة.
والثاني : أنها لبيان الجنس؛ قال ابن عطيَّة :« أي : إنَّ هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنَّة في النَّفس ».
الثالث : أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « جَنَاح ».
الرابع : أنها لابتداء الغاية.
قوله :« كَمَا ربَّيانِي » في هذه الكاف قولان :
أحدهما : أنها نعتٌ لمصدر محذوف، فقدَّره الحوفيُّ :« ارحمهما رحمة مثل تربيتهما [ لي ] ». وقدَّره أبو البقاء :« رحمة مثل رحمتهما » كأنَّه جعل التربية رحمة.