وقال :﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].
وقال محمد ابن الحنفيَّة : المراد منه شهادة الزُّور.
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : لا تشهد إلاَّ بما رأته عيناك، وسمعته أذناك، ووعاهُ قلبك.
وقيل : المراد النَّهيُ عن القذف، وقيل : المراد النهي عن الكذبِ.
قال قتادة : لا تقل : سمعت، ولم تسمعْ، ورأيتُ، ولم تَرَ، وعلمتُ، ولم تعلمْ.
وقيل : القَفْوُ : هو البهت، وأصله من القَفَا؛ كأنه يقال : خلفه، وهو في معنى الغيبة. واللفظ عامٌّ يتناولُ الكلَّ، فلا معنى للتقييد.

فصل في الرد على نفاة القياس


احتجَّ نفاةُ القياسِ بهذه الآية، قالوا : القياسُ لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ، والظَّن مغاير للعلم، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكمٌ بغير العلم؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾.
وأجيب عنه بوجوه :
الأول : أن الحكم في الدِّين بمجرَّد الظنِّ جائزٌ بإجماع الأمَّة في صورٍ كثيرةٍ :
منها : العمل بالفتوى عملٌ بالظنّ.
ومنها : العمل بالشهادة عملٌ بالظَّنِّ.
ومنها : الاجتهاد في القبلة عمل بالظنِّ.
ومنها : قيم المتلفات، وأروش الجنايات عملٌ بالظنِّ.
ومنها : الفصدُ، والحجامةُ، وسائر المعالجات؛ بناءً على الظنِّ.
ومنها : كون هذه الذَّبيحةِ ذبيحة مسلمٍ مظنون.
ومنها : الحكمُ على الشَّخص المعيَّن بكونه مؤمناً مظنونٌ، ثم يبنى على هذا الظنِّ أحكام كثيرة، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما.
ومنها : الأعمال المعتبرةُ في الدنيا من الأسفار، وطلب الأرباح، والمعاملات إلى الآجالِ المخصوصة، والاعتماد على صداقةِ الأصدقاء، وعداوة الأعداء كلِّها مظنونةٌ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائزٌ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه- :« نَحْنُ نَحْكمُ بالظَّاهر والله يتولَّى السَّرائِر »
وذلك تصريح بأنَّ الظنَّ معتبر في هذه الأنواع، فبطل القول بأنه لا يجوز العمل بالظنِّ.
الثاني : أنَّ الظنَّ قد يسمَّى بالعلم؛ قال تعالى :﴿ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ].
ومن المعلوم أنَّه إنما يمكن العلم بإيمانهنَّ؛ بناء على إقرارهن، وهذا لا يفيد إلاَّ الظنَّ، وقد سمَّى الله تعالى الظنَّ ها هنا علماً.
الثالث : أنَّ الدليل القاطع، لما دلَّ على وجوب العمل بالقياس، كان ذلك الدليل دليلاً على أنَّه متى حصل ظنُّ أنَّ حكم الله في هذه الصُّورة يساوي حكمه في محلِّ النصِّ، فأنتم مكلَّفُون بالعمل على وفق ذلك الظنِّ، فها هنا الظن وقع في طريق الحكم، فأمَّا الحكم، فهو معلومٌ متيقَّن.
أجاب نفاةُ القياس عن الأول؛ فقالوا :
قوله عزَّ وعلا :﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ دخله التخصيصُ في الصُّور العشرة المذكورة، فيبقى العموم حجة فيما وراءها، ثم نقول : الفرق بين هذه الصور وبين محلِّ النِّزاع أنَّ هذه الصور العشر مشتركة في أنَّ تلك الأحكام مختصَّة بأشخاصٍ معينين في أوقات معيَّنة؛ فإنَّ الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعيَّن إلى الفتى المعيَّن واقعة متعلقة بذلك الشخص المعيَّن، وكذا القول في الشَّهادة وفي طلب القبلة، وفي سائر الصور؛ والتنصيص على وقائع الأشخاص المعنيين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له، فلهذه الضرورة؛ اكتفينا بالظنِّ، أما الأحكام المثبتة، فهي أحكامٌ كليةٌ معتبرةٌ في وقائعِ كلية، وهي مضبوطة، والتنصيص عليها مكنٌ، ولذلك فإنَّ الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها، وذكروها في كتبهم.


الصفحة التالية
Icon