واحتج القائلون بأنَّ الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلُّها تسبِّح لله تعالى بهذه الآية، ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته؛ لأنَّه تعالى قال :﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ وهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا، ودلالتها على وجود قدرة الله تعالى وحكمته معلومةٌ لنا، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه.
فأجاب أهل المعاني بوجوه :
أولها : أنَّك إذا أخذت تفاحة واحدة، فتلك التفاحة مركبة من أشياء كثيرة، لا تتجزَّأ، وكلُّ واحدٍ من تلك الاجزاء دليلٌ تامٌّ مستقلٌّ على وجودِ الإله، ولكلِّ واحد من تلك الأجزاء صفات مخصوصة من الطَّبع، والطَّعم، واللَّون، و الرائحة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات، ولا يحصل ذلك إلا بتخصيص مخصِّص قادر حكيم.
إذا عرف هذا ظهر أنَّ كلَّ واحدٍ من أجزاء تلك التفاحة دليل تامٌّ على وجود الإله، وكل صفة من تلك الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد أيضاً دليل تامٌّ على وجود الإله، ثم عدد تلك الأجزاء غي رمعلومٍ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا قال تعالى :﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾.
وثانيها : أن الكفَّار، وإن كانوا يقرُّون بإثبات إله العالم إلاَّ أنهم ما كانوا يتفكَّرون في أنواع الدَّلائلِ، كما قال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٥ ].
فكان المراد من قوله :﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ هذا المعنى.
وثالثها : أنَّ القوم، وإن كانوا مقرِّين بألسنتهم بإثبات إله العالم، إلاَّ أنَّهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته، ولذلك استبعدوا كونه قادراً على الحشر والنشر، فكان المراد ذلكز
ورابعها : قوله لمحمدٍ :« قُلْ » لهم :﴿ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٤٢ ]، فهم ما كانوا عالمين بهذه الدلائل، فلما قال :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ ﴾ بصحَّة هذا الدليل وقوَّته، وأنتم لا تفقهون هذا الدليل، ولا تعرفونه، بل القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والنبوَّة والمعاد، فقال تعالى :﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾، فذكر الحليم الغفور ها هنا يدلُّ على كونهم لا يفقهون ذلك التَّسبيح، وذلك جرم عظيمٌ صدر عنهم، وهذا إنما يكن جرماً، إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالَّة على كمال قدرة الله وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم، ما عرفوا وجه تلك الدلائل، ولو حملنا هذا التسبيح على تسبيح الجمادات بأنواعها، لم يكن عدم الفقه لذلك التسبيح جرماً، ولا ذنباً، وإذا لم يكن جرماً، ولا ذنباً، لم يكن قوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ لائقاً بهذا الموضع.