قوله تعالى :﴿ واستفزز ﴾ : جملة أمرية عطفت على مثلها من قوله « اذهَبْ ». و « من اسْتطَعْتَ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنها موصولة في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز، أي : استفزز الذي استطعت استفزازه منهم.
والثاني : أنها استفهامية منصوبة المحلِّ ب « استطعت » قاله أبو البقاء، وليس بظاهرٍ؛ لأن « اسْتفْزِزْ » يطلبه مفعولاً به، فلا يقطع عنه، ولو جعلناه استفهاماً، لكان معلقاً له، وليس هو بفعلٍ قلبيٍّ [ فيعلقُ ].
والاسْتِفْزازُ : الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ : استخفَّني حتى خدعني لما يريده. قال :[ الطويل ]

٣٤٣٦- يُطِيعُ سَفيهَ القَومِ إذ يَسْتفِزُّهُ ويَعْصِي حَليماً شَيَّبتهُ الهَزاهِزُ
ومنه سمِّي ولد البقرة « فزًّا ». قال الشاعر :[ البسيط ]
٣٤٣٧- كَمَا اسْتغَاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ خَافَ العُيونَ ولمْ يُنْظرْ بِهِ الحَشَكُ
وأصل الفزِّ : القطعُ، يقال : تفزَّز الثَّوب، أي : تقطَّع.
ويقال : أفزَّه الخوف، واستفزَّه، أي : أزعجه، واستخفَّه.
واعلم أنَّ إبليس، لمَّا طلب من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة؛ لأجل أن يحتنك ذريَّة آدم - صلوات الله وسلامه عليه - ذكر الله تعالى أشياء :
أولها : قوله عزَّ وجلَّ :﴿ اذْهَبْ ﴾ أي : أمهلتك هذه المدَّة.
وثانيها : قوله تعالى :﴿ واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ ﴾.
وتقدَّم أن الاستفزاز : الاستخفاف، وقيل : اسْتَنْزَلَ واستجهد.
وقوله :« بِصَوْتِكَ ».
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - وقتادة : بدعائك غلى معصية الله.
وقال الأزهريُّ : ادعهم دعاء تستخفُّهم به إلى إجابتك.
وقال مجاهدٌ : بصوتك، أي : بالغناءِ واللَّهو.
وهذا أمرُ تهديد، كما يقال : اجتهد جهدك؛ فسترى ما ينزل به :
وثالثها : قوله :﴿ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم ﴾ أي : اجمع عليهم الجموع من جندك، يقال أجلب عليه وجلب، أي : جمع عليه الجموع.
قال الفرَّاء : هو من الجَلبةِ، وهو الصِّياح.
وقال أبو عبيدة : أجْلبُوا وجَلبُوا : من الصِّياح.
وقال الزجاج في « فَعَل، وأفْعَلَ » : أجلب على العدوِّ وجلب، إذا جمع عليه الخيل.
وقال ابن السِّكيت : يقال : هم يجلبون عليه؛ لمعنى أنهم يعينون عليه.
وروى ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ : أجلب الرجل على الرجل، إذا توعَّده بالشرِّ، وجمع عليه الجمع، فعلى قول الفرَّاء معنى الآية : صح عليهم بخيلك ورجلك، وعلى قول الزجاج : اجمع عليهم كلَّ ما تقدر عليه من مكائدك، وعلى هذا تكون الباء في قوله :« بخيلك » زائدة.
وعلى قول ابن السِّكيت : معناه : أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف، تقديره : استعن على إغوائهم بخيلك ورجلك، وهو يقرب من قول ابن الأعرابيِّ.
والمراد بالخيل والرجل : قال ابن عباس : كلُّ راكبٍ أو راجلٍ في معصية الله، فهو من خيل إبليس وجنوده.
وقال مجاهدٌ وقتادة : إن لإبليس جنداً من الشياطين بعضهم راكبٌ، وبعضهم راجلٌ.
وقيل : المراد ضرب المثل؛ كما يقال للرجل المجدِّ في الأمر : جئت بالخيل والرجل، وهذا الوجه أقرب، والخيل يقع على الفرسان، قال رسول الله ﷺ :


الصفحة التالية
Icon