ثمَّ قال تعالى :﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر ﴾.
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه- : في البرِّ على الخيل والبغالِ والحميرِ والإبلِ، وفي البحر على السُّفُن.
﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات ﴾ يعني لذيذ الطَّعام والمشارب، ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾.
واعلم أنَّه قال في أوَّل الآية ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾.
وقال في آخرها :﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ ﴾ ولا بدَّ من الفرق بين التكريم والتفضيل، وإلا لزم التَّكرار، والأقرب أن يقال : إنه تعالى فضَّل الإنسان على سائرِ الحيوانات بأمور خلقيَّة طبعيَّة ذاتيَّة؛ كالعقل، والنطق، والخطِّ، والصورة الحسنة، و القامة المديدة، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقَّة، والأخلاق الفاضلة، فالأول : هو التكريم، والثاني : هو التفضيل.

فصل


ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّه فضَّلهم على كثيرٍ من خلقه، لا على الكلِّ، فقال قومٌ : فضِّلوا على جميع الخلق، لا على الملائكة، وهذا قول ابن عباس، واختيارُ الزجاج على ما رواهُ الواحديُّ في « البسيط ».
وقال الكلبيُّ : فضِّلوا على جميع الخلائف كلِّهم، إلاَّ على طائفةٍ من الملائكة : جبريل، ميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت - صلوات الله عليهم أجمعين - وأشباههم.
وقال قوم : فضِّلوا على جميع الخلق، وعلى الملائكةِ كلِّهم، وقد يوضع الأكثر موضع الكلِّ؛ كقوله سبحانه ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين ﴾ [ الشعراء : ٢٢١ ] إلى قوله :﴿ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢٢٣ ] أي : كلُّهم.
وروى جابرٌ يرفعه : قال « لمَّا خلق الله - عزَّ وجلَّ - آدم، وذريَّته، قالت الملائكة : يا ربُّ، خلقتهم يَأكلُونَ، ويَشْرَبُونَ، ويَنكِحُونَ، فاجعلْ لهمُ الدُّنْيَا، ولنَا الآخِرةَ، فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له : كن فكان ».
والأولى أن يقال : عوامُّ الملائكة أفضل من عوامِّ المؤمنين، وخواصُّ المؤمنين أفضل من خواصِّ الملائكة، قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية ﴾ [ البينة : ٧ ].
ورُوِيَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :« المُؤمِنُ أكْرَمُ على الله مِنَ المَلائِكَةِ الَّذينَ عِندَهُ » رواه البغويُّ وأورده الواحدي في « البسيط ».
واحتجَّ القائلون بتفضيل الملائكة على البشر على الإطلاق بهذه الآية.
قال ابن الخطيب : وهو في الحقيقة تمسُّكٌ بدليل الخطاب، وتقريره أن يقال : تخصيص الكثير بالذكر يدلُّ على أنَّ الحال في القليل بالضدِّ، وذلك تمسُّك بدليل الخطاب.


الصفحة التالية
Icon