قال : فهذا هو المراد من قوله عزَّ وجلَّ :﴿ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾.
والقول الأول أولى؛ لأنَّ سعيه في الشَّفاعة يفيد إقدام الناس على حمده، فيصير محموداً، وأمَّا ذكر هذا الدعاء، فلا يفيد إلا الثواب، أمَّا الحمد، فلا.
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنَّه تعالى يحمده على هذا القول؟.
فالجواب : أنَّ الحمد في اللغة : مختصٌّ بالثناءِ المذكور ف يمقابلة الإنعام بلفظٍ، فإن ورد لفظ « الحمد » في غير هذا المعنى، فعلى سبيل المجاز.
القول الثالث : المراد مقامٌ تحمد عاقبته، وهذا ضعيفٌ؛ لما ذكرنا.
القول الرابع : قال الواحديُّ - رحمه الله - : روي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - أنه قال : يقعدُ الله محمداً على العرشِ، وعن مجاهد أنَّه قال : يجلسه معه على العرشِ.
قال الواحدي : وهذا قولٌ رذلٌ موحشٌ فظيعٌ، ونص الكتاب يفسد هذا التفسير من وجوه :
الأول : أن البعث ضدُّ الإجلاس، يقال : بعثتُ النَّاقة، وبعث الله الميت، أي : أقامه من قبله، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضدِّ بالضدِّ؛ وهو فاسدٌ.
والثاني : أنه تعالى، لو كان جالساً على العرشِ، بحيث يجلس عنده محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لكان محدوداً متناهياً، ومن كان كذلك، فهو محدثٌ.
الثالث : أنه تعالى قال :﴿ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾ ولم يقل : مقعداً، والمقام : موضع القيام، لا موضع القعود.
الرابع : أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزازٍ؛ لأن هؤلاء الحمقاء يقولون : إنَّ أهل الجنة كلهم يجلسون معه ويرونه، وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكلِّ المؤمنين، لم يكن في تخصيص محمد ﷺ بذلك مزيد شرفٍ ومرتبةٍ.
الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلاناً، فهم منه أنَّه أرسله لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم أنه أجلسه مع نفسه؛ فثبت أن هذا القول كلام رذلٌ، لا يميل إليه إلاَّ قليل العقل، عديم الدِّين.