وقرئ « ويُبشِّرُ » بالرفع على الاستئناف. والمراد بالأجر الحسن الجنة.
قوله :﴿ مَّاكِثِينَ ﴾ : حالٌ : إمَّا من الضمير المجرور في « لهُم »، أو المرفوع المستتر فيه، أو من « أجراً » لتخصصه بالصفة، غلاَّ أنَّ هذا لا يجيءُ إلاَّ على رأيِ الكوفيين. فإنهم لا يشترطون بروزَ الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له إذا أمن اللَّبسُ، ولو كان حالاً منه عند البصريِّين لقال : ماكثين هم فيه. ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون صفة ثانية ل « أجْراً ». قال أبو البقاء : وقيل : هو صفة ل « أجْراً »، والعائد الهاء في « فيه ». ولم يتعرَّض لبروزِ الضمير ولا لعدمه بالنسبة إلى المذهبين.
و « أبداً » منصوبٌ على الظرف ب « مَاكثِينَ ».

فصل


اعلم أنَّ المقصود من إرسالِ الرسل إنذارُ المذنبين وبشارة المطيعين، ولمَّا كان دفع الضرِّ أهمَّ عند ذوي العقول من إيصال النَّفع، لا جرم قدَّم الإنذار في اللفظ.
قال الزمخشريُّ : قرئ « ويُبشِّرُ » بالتخفيف والتَّثقيل و ﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ﴾ بمعنى خالدين.

فصل


قال القاضي : دلت الآية على صحَّة قوله في مسائل :
أحدها : أنَّ القرىن مخلوقٌ وبيانه من وجوه :
الأول : أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزولِ، وذلك من صفاتِ المحدثات، فإنَّ القديم لا يجوز عليه التغييرُ.
والثاني : أنَّه وصفه بكونه كتاباً، و الكتب هو الجمع، وسمِّي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروفِ والكلماتِ، وما صحَّ فيه [ من ] التركيب والتأليف فهو محدثٌ.
الثالث : أنَّه تعالى أثبت الحمد لنفسه، على إنزالِ الكتاب، والحمد إنَّما يستحقُّ على النعمةِ، والنعمةُ محدثة [ مخلوقة ].
الرابع : أنَّه وصفهُ بأنه غير معوجٍّ وبأنَّه مستقيمٌ، والقديم لا يمكن وصفه بذلك، فثبت أنَّه محدثٌ مخلوقٌ.
وثانيها : خلق الأعمال؛ فإنَّ هذه الآية تدلُّ على قولنا في هذه المسألة من وجوهٍ :
الأول : نفس الأمر بالحمد؛ لأنَّه لو لم يكن للعبد فعلٌ لم ينتفع بالكتاب، إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر أن يفعل ما دلَّ الكتاب على أنه يجب فعله، ويترك ما دلَّ الكتاب على أنه يجب تركهُ، وهذا إنَّما كان يعقل لو كان مستقلاً بنفسه.
أمَّا إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثرٌ في اعوجاج فعله، ولم يكن لكون الكتاب « قيِّماً » أمرٌ في استقامةِ فعله كان العبدُ قادراً على الفعل مختاراً فيه.
والثاني : أنَّه تعالى لو أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض، وأنزل الباقي ليؤمن البعضُ الآخر، فمن أين أن ذلك الكتاب قيمٌ لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوجٌ لما زاد على ذلك.
والثالث : قوله :« لِيُنذِرَ » وفيه دلالة على أنَّه تعالى أراد منه ﷺ إنذارَ الكلِّ وتبشير الكلِّ، وبتقدير أن يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذارِ والتبشير فائدة؛ لأنَّه تعالى إذا خلق الإيمان حصل شاء العبدُ أو لم يشأ، وإذا خلق الكفر [ حصل ] شاء العبد أو لم يشأ، فيصيرُ الإنذار والتبشيرُ على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذارِ والتبشير على كونه طويلاً وقصيراً وأبيض وأسود ممَّا لا قدرة للعبد عليه.


الصفحة التالية
Icon