وإذا عرفت هذا فنقول : إن موسى وفتاه، لمَّا بلغا مجمع بينهما، طفرت السَّمكةُ إلى البحر، وسارت، وفي كيفيَّة طفرها روايات.
فقيل : إن الفتى غسل السَّمكة، لأنها كانت مملحة، فطفرت وسارت.
وقيل : إنَّ يوشع توضَّأ في ذلك المكان من عينٍ تسمَّى « مَاءَ الحياةِ » لا يصيبُ ذلك الماءُ شيئاً إلاَّ حيي، فانتضح الماء على الحوت المالح، فعاش ووثب في الماء.
وقيل : انفجر هناك عينٌ من الجنَّة، ووصلت قطراتٌ من تلك العين إلى السَّمكة، وهي في المكتل، فاضطربت، وعاشت، فوثبت في البحر.
ثم قال تعالى :﴿ نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ أي : نسيا كيفيَّة الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب، فإن قيل : انقلاب السَّمكة المالحة حيَّة [ حالة ] عجيبة [ فلما ] جعل الله تعالى حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب، فكيف يعقل حصول النِّسيان في هذا المعنى؟.
فالجواب أنَّ يوشع كان قد شاهد المعجزات الباهرات من موسى - ﷺ - كثيراً، فلم يبق لهذه المعجزات عنده وقعٌ عظيم، فجاز حصول النِّسيان.
وهذا الجواب فيه نظرٌ.
قال ابن زيدٍ : أي شيءٍ أعجبُ من حوتٍ يؤكل منه دهراً، ثم صار حيًّا بعدما أكلَ بعضه.

فصل في ذكر جوابٍ آخر لابن الخطيب


قال ابن الخطيب : وعندي فيه جوابٌ آخر، وهو أنَّ موسى - عليه السلام - لما استعظم علم نفسه، أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروريَّ؛ تنبيهاً لموسى عليه السلام - على أنَّ العلم لا يحصل ألبتَّة إلا بتعليم الله تعالى، وحفظه على القلب.
وقال البغويُّ :« نَسيَا » تركا « حُوتَهُمَا »، وإنما كان الحوت مع يوشع، وهو الذي نسيه، وأضاف النِّسيان إليهما؛ لأنهما جميعاً لمَّا تزوَّداه لسفرهما، كما يقال : خرج القوم إلى موضع كذا، وحملوا من الزَّاد كذا [ وإنما حملهُ واحد منهم. ثم قال :« واتخذ سبيله في البحر سرباً » قيل : تقديره سرب في البحر سرباً « ] إلاَّ أنه أقيم قوله :» فاتّخذ « مقام قوله :» سرباً «، والسَّرب هو الذهاب ومنه قوله تعالى :﴿ وَسَارِبٌ بالنهار ﴾ [ الرعد : ١٠ ].
وقيل : إن الله تعالى أمسك الماء عن الجري، وجعله كالطاق والكوَّة؛ حتَّى سرب الحوت فيه، وذلك معجزةٌ لموسى أو الخضر - عليهما السلام-.
روي عن النبيِّ ﷺ قال :»
انجاب الماءُ عن مسلكِ الحوت، فصار كوَّة، لم يلتئمْ، فدخل موسى الكوَّة على إثر الحوت، فإذا هو بالخضر «.


الصفحة التالية
Icon