فِإن قيل : كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلقِ الولدِ منه في زمانِ الكبرِ؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشَّروا به؟.
فِأجاب القاضي : بأنه أراد أن يعرف أنه تعالى هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على سفة الشيخوخة، أو يقلبه شابًّا، ثم يعطيه الولد؟.
وسبب هذا الاستفهام : أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامَّة، وإنما يحصل في حال الشَّبابِ.
فإن قيل : فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم، فلم قالوا :﴿ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين ﴾ ؟.
قلنا : إنهم بيَّنوا أنه تعالى بشَّرهُ بالولد مع إبقائه على صفة الشَّيخوخَةِ، وقولهم ﴿ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين ﴾ لايدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرَّح في جوابهم بما يدلُّ على أنَّه ليس كذلك فقال :﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون ﴾.
وأجاب غيره : بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيءٍ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنِّه حصول المراد فيه، فإذا بشِّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه، وسروره، ويصير ذلك الفرحُ القويُّ كالمدهش له، والمزيل لقوَّة فهمه، وذكائه، فربَّما تكلم بكلماتٍ مضطربة في ذلك الوقت.
وقيل أيضاً : إنه يستطيب تلك البشارة، فربَّما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرَّة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة، أو طلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق، كقوله :﴿ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ] وقيل أيضاً : استفهم : أبأمرِ الله تبشروني، أم من عند أنفسكم، واجتهادكم.
قوله :﴿ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق ﴾ قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما يريد بما قضى الله تعالى.
وقوله :﴿ فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين ﴾ نهي لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن القنوطِ، وقد تقدَّم أنَّ النهي لإنسان عن الشَّيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهيّ عنه، كقوله جلَّ وعزَّ ﴿ وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ﴾ [ الأحزاب : ٤٨ ] ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين ﴾ [ القصص : ٧٨ ].
قوله :﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ ﴾ هذا استفهام معناه النفي، ولذلك وقع بعد الإيجاب ب « إلاَ ».
وقرأ أبو عمرو، والكسائي :« يَقْنِطُ » بكسر عين هذا المضارع حيث وقع، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها، وفي الماضي لغتان « قنط » بكسر النون، « يَقنَطُ » بفتحها، وقنط « يقْنطُ » بكسرها، ولولا أن القراءة سنة متبعة، لكان قياس من قرأ ﴿ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ﴾ [ الشورى : ٢٨ ] وافلتح في الماضي هو الأكثر، ولذلك أجمع عليه.
قال الفارسي : فتح النون في الماضي، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات، ويرجحُ قراءة « يَقْنَطُ » بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات « فلا تكن من القنطين » كفَرِحشَ يفرح فهو فَرِحٌ.
والقُنُط : شدَّة اليأسِ من الخَيرٍ، وحكى أبو عبيدة :« قَنُطَ » يَقْنُطُ بضمِّ النون.


الصفحة التالية
Icon